حكم تأخير الدعوة إلى التوحيد
ما رأيك في القول بتأخير الدعوة إلى التوحيد؛ وبخاصة التحذير من شرك القبور بحجة أن ذلك يفرِّق صف الأمة؟ وكيف نجمع بين توحيد الصف ووضوح المنهج؟ وهل يدخل في توحيد الصف أصحاب البدع المكفرة كغلاة التصوف في بلادنا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالدعوة إلى التوحيد هي لبُّ الدين وأساسه؛ وهي التي بدأ بها كل رسول؛ كما قال سبحانه {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال سبحانه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وكان كل نبي يقول لقومه {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ويدخل في ذلك التحذير من أنواع الشرك، وحض الناس على أن يفردوا ربهم جل جلاله بأنواع العبادة كلها، وأن يَقدُروه حق قدره؛ وهذا الذي ينبغي تقديمه على كل شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن {إنك ستأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة…الحديث} فقدَّم صلى الله عليه وسلم التوحيد على العبادات العملية، والتي هي ثمرة التوحيد ومظهره العملي، ولا يجوز أن يقال: إن هذه الدعوة تفرِّق صف الأمة، بل هي السبيل الصحيح لوحدة دائمة لا مؤقتة، ولكن لا بد من التنبيه على مسائل يغلط فيها بعض الناس:
أولاها: أن ثمة فرقاً بين الدعوة إلى التوحيد والإساءة إلى المدعوين؛ فإن بعض الناس يظن أن من لوازم الدعوة إلى التوحيد ذكر المخالفين بأسمائهم أو طوائفهم وطرقهم، والتشنيع عليهم وربما السخرية منهم ومن عقائدهم ومشايخهم المعظَّمين عندهم، مما يفضي إلى إعراضهم عن قبول الحق واستمساكهم بما هم عليه من الباطل، وقد قال الله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}
ثانياً: ليس من لوازم الدعوة إلى التوحيد الإغلاظ على الناس واستعمال الشدة معهم، بل الإغلاظ يكون على الكفار والمنافقين حال الجهاد {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} وإلا فإن الأصل في الدعوة أن تكون برفق وبالتي هي أحسن حتى مع الكافر {وجادلهم بالتي هي أحسن} والكتابي {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}
ثالثاً: الدعوة إلى التوحيد مجال واسع قد يلج إليه الشخص من خلال تفسير القرآن أو شرح السنة أو سرد السيرة أو بيان أحكام الفقه العملي، أو غير ذلك من أبواب العلم، وليس من شرط بيان التوحيد أن يكون الدرس أو الخطبة أو الكتاب معنوناً بهذا العنوان؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه بطرح سؤال أو سرد قصة أو ضرب مثل أو غير ذلك من الأساليب، وما ينبغي لعاقل أن يحجر واسعاً؛ ليسعى بعد ذلك في تصنيف الناس: هذا يدعو إلى التوحيد، وهذا لا يدعو إليه
رابعاً: ليست الدعوة إلى التوحيد قاصرة على بيان شرك القبور، بل يشمل ذلك أبواباً كثيرة من العلم كلها داخل تحت هذا العنوان الكبير، فنهي الناس عن الرياء والطيرة وتعليق التمائم توحيد، كما أن أمرهم بالتوكل على الله واللجوء إليه والاستغاثة به والنذر له وإخلاص العمل له وموالاة المسلمين والبراءة من الكافرين توحيد، وكذلك الحديث عن عذاب القبر ونعيمه وأشراط الساعة والجنة والنار والصراط والميزان والحوض والعرش والكرسي توحيد، والحديث عن صفات الكمال والجمال لذي الجلال والإكرام توحيد، وتذكير الناس بوجوب الحكم بما أنزل الله، ونبذ القوانين الجاهلية الوضيعة توحيد، والحديث عن النبوات وشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعجزاته توحيد وهكذا.
وأما سؤالك عن المتصوفة فالواجب أن تعلم أنهم معدودون في طوائف المسلمين، وأنهم ليسوا سواء بل فيهم وفيهم، والواجب عند دعوتهم التفرقة بينهم، كما أن المنتسبين إلى السلفية اليوم فيهم وفيهم، وفي حال تعرُّض الأمة لبلاء عظيم ـ كما هو في مثل أيامنا ـ يجب الحرص على رصِّ الصفوف وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا؛ لأن العدو المتربص بنا لن يترك صوفياً ولا سلفياً، بل الكل مستهدف والعراق خير مثال، وأسأل الله أن يجمع المسلمين على كلمة سواء.