هل النبي مخلوق من نور؟
هل النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أولاً: فإنني أنصح السائل الكريم ومن معه بأن يشتغلوا بما ينفعهم من مهمات الدين دون إغراق في قضايا كلامية جدلية لا يترتب عليها عمل؛ لأن هذا من المراء الذي نهينا عنه.
ثانياً: نبينا صلى الله عليه وسلم بنص القرآن بشر كسائر البشر مخلوق من أب وأم كما مضت سنة الله تعالى؛ إلا أنه أكملهم خَلقاً وخُلقاً، وقد قال الله تعالى {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} وقال {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} وقال سبحانه {ألر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال {صلى بنا رسول الله الظهر خمساً؛ فلما سلَّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا. فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثم سلَّم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني} وفي الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له شيئاً من حق أخيه فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من نار} وكذلك سائر الأنبياء قبله كما قال سبحانه {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} ونبينا عليه الصلاة والسلام بشر لكنه خير الناس نسباً وأجملهم خلقة وأزكاهم خُلقا.
ثالثاً: مما يدل على هذا المعنى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش؛ فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول {اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك} وفي رواية الترمذي {فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة} وفي رواية مالك في الموطأ {كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول} فلو كان نوراً حسياً كما يظن بعض الناس لما احتاجت عائشة رضي الله عنها لالتماسه في الظلام.
رابعاً: قد يستدل بعض الناس بقوله تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} قال أهل التفسير: قيل: النور في هذه الآية هو الإسلام وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم نور باعتبار ما يدعو إليه من هدى وأنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى: وجملة {قد جاءكم من الله نور} بدل من جملة {قد جاءكم رسولنا} بدل اشتمال، لأنّ مجيء الرسول اشتمَل على مجيء الهُدى والقرآن.ا.هـ وكذلك المعنى في قوله تعالى {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا} قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: أي: وأمرُك ظاهر فيما جئت به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند.ا.هـ وقال الألوسي رحمه الله تعالى في روح المعاني: يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية.ا.هـ وقال ابن الجوزي في زاد المسير: أي كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به.ا.هـ وقال البيضاوي رحمه الله في تفسيره: يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر.ا.هـ وقال الزمخشري في كشافه: جلى به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به، أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار.ا.هـ وقال النسفي رحمه الله في تفسيره: جلا به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون؛ كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به، والجمهور على أنه القرآن فيكون التقدير وذا سراج منير أو وتالياً سراجاً منيراً.ا.هـ وقال أبو السعود: يُستضاءُ به في ظلماتِ الجهلِ والغَوايةِ ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ.ا.هـ وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها، والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها، وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير.ا.هـ
خامساً: القول ببشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني أنه بشر كسائر الناس، بل هو عليه الصلاة والسلام أجمل الناس خَلْقاً، وأحسنهم خُلُقاً، وأزكاهم نفساً، وأكملهم عقلاً، وأوفرهم حلماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنس رضي الله عنه {ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه؛ حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً} رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدد من أصحابه كعلي بن أبي طالب وهند بن أبي هالة والبراء بن عازب والربيع بنت معوذ وغيرهم مما هو وارد في الصحاح والسنن والمسانيد؛ وخلاصة ما وصفوه به أنه كان أجمل الناس صورة وصوتاً ومعنى؛ وكما قال حسان رضي الله عنه في مدحه صلى الله عليه وسلم:
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النســاء
خلقت مبرأ من كل عيـب كأنك قد خلقت كما تشـاء