أباطيل في خطبة الجمعة
إمام مسجدنا ذكر في خطبة الجمعة وهو على المنبر أن الإمام أحمد بن حنبل رأى الله تبارك وتعالى 99 مرة، وأخبر الناس أنه إذا رآه في المرة المائة سيسأله عن أفضل عبادة، وأنه عاد وذكر أنه رآه للمرة المائة وسأله، وأجابه المولى عز وجل بأن أفضل عبادة هي تلاوة القرآن، وأيضاً قال: (من لم يؤمن بأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب لا يقبل عمله، إن صلى لا تقبل صلاته، وإن صام لا يقبل صومه، وإن زكى لا تقبل زكاته، وإن حج لا يقبل حجه). وقال أن صلاة ركعة واحدة للمتزوج أفضل من سبعين ركعة للأعزب. وقال أن امرأة أتت الرسول عليه الصلاة والسلام، وروت له حلماً، فسألها عن زوجها، فأخبرته بأنه في الجهاد، فطلب منها أن تصبر لأنها لن تراه مرة أخرى لأنه استشهد، فخرجت فلقيت سيدنا عثمان رضي الله عنه، وأخبرته بالحلم الذي روته لرسول الله، فقال لها اذهبي لمنزلك وستجدين زوجك؛ وقد كان، فعادت مرة أخرى للرسول عليه الصلاة والسلام، فأخبرته بما حدث لها مع سيدنا عثمان ورجوع زوجها، عندها رفع صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء، فرأى جبريل الذي أخبره بأن تفسيره للحلم صحيح؛ لكن الله أحيا زوجها حتى لا يكون سيدنا عثمان كذاباً، فما رأيكم فيما يقول؟ وهل لذلك سند صحيح؟ أفيدونا رحمكم الله.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فالواجب على خطيب الجمعة أن يعنى بتعليم الناس المهم من أمور دينهم؛ ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، وينأى بهم عما يثير الخلافات ويوسِّع الشقة بينهم، وعليه أن يأتي بما تستوعبه العقول وتطمئن إليه القلوب، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ {مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً} وليس بالضرورة أن يعرض الإمام على الناس كل ما عنده، بل قد يسكت عن بعض العلم لأنه قد لا يفهم على مراده هو؛ وفي صحيح البخاري (باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا) وَقَالَ عَلِيٌّ: {حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وروى من حديث أنس رضي الله عنه قال: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: {مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ} قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: {لاَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا} وعلى الإمام أن يتجنب في خطبته القصص المختلقة والأحاديث المكذوبة، وكل ما يحيله العقل، وعليه كذلك أن يتجنب ذكر الأشخاص والطوائف حال إنكاره منكراً؛ وليتقيد بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا}
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد مبيناً هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: وَكَانَ يُقَصّرُ الْخُطْبَةَ، وَيُطِيلُ الصّلَاةَ، وَيُكْثِرُ الذّكْرَ، وَيَقْصِدُ الْكَلِمَاتِ الْجَوَامِعَ، وَكَانَ يَقُولُ {إنّ طُولَ صَلاَةِ الرّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنّةٌ مِنْ فِقْهِه} وَكَانَ يُعَلّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ؛ كَمَا أَمَرَ الدّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ . وَنَهَى الْمُتَخَطّيَ رِقَابَ النّاسِ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ. وَكَانَ يَقْطَعُ خُطْبَتَهُ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ أَوْ السّؤَالِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُجِيبُهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى خُطْبَتِهِ فَيُتِمّهَا. وَكَانَ رُبّمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ لِلْحَاجَةِ ثُمّ يَعُودُ فَيُتِمّهَا؛ كَمَا نَزَلَ لِأَخْذِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا فَأَخَذَهُمَا ثُمّ رَقِيَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ فَأَتَمّ خُطْبَتَهُ؛ وَكَانَ يَدْعُو الرّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ تَعَالَ يَا فُلَانُ اجْلِسْ يَا فُلَانُ صَلّ يَا فُلَانُ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمُقْتَضَى الْحَالِ فِي خُطْبَتِهِ فَإِذَا رَأَى مِنْهُمْ ذَا فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ أَمَرَهُمْ بِالصّدَقَةِ وَحَضّهُمْ عَلَيْهَا. وَكَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ السّبّابَةِ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ. وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِهِمْ إذَا قَحَطَ الْمَطَرُ فِي خُطْبَتِه، وَكَانَ يُمْهِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى يَجْتَمِعَ النّاسُ فَإِذَا اجْتَمَعُوا خَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَاوِيشٍ يَصِيحُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا لَبِسَ طَيْلَسَانًا وَلَا طُرْحَةً وَلَا سَوَادًا؛ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ سَلّمَ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ اسْتَقْبَلَ النّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ؛ وَلَمْ يَدْعُ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ؛ ثُمّ يَجْلِسُ وَيَأْخُذُ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قَامَ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَطَبَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ لَا بِإِيرَادِ خَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ سَيْفًا وَلَا غَيْرَهُ؛ وَإِنّمَا كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا قَبْلَ أَنْ يَتّخِذَ الْمِنْبَرَ؛ وَكَانَ فِي الْحَرْبِ يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْسٍ.ا.هـــ
وأما المسائل التي ذكرها إمامكم فأجيب عنها اختصاراً:
أولاً: ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل جلاله مناماً في أحسن صورة؛ فقد خرج عليه الصلاة والسلام على أصحابه غداة وهو طيب النفس، مسفر الوجه أو مشرق الوجه، فقلنا: يا رسول الله إنا نراك طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه، فقال: {ما يمنعني وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة، فقال: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك. فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري أي رب. قال ذلك مرتين أو ثلاثاً. قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي حتى تجلى لي ما في السماوات وما في الأرض. ثم تلا هذه الآية (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الآية، قال: يا محمد: فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قال: قلت في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد خلاف الصلوات (بعد الصلوات) وإبلاغ (اسباغ) الوضوء في المكاره. قال: من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. ومن الدرجات: طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام. فقال: يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تتوب علي، وإذا أردت فتنة في الناس فتوفني غير مفتون) رواه أحمد ورجاله ثقات.
وأما رؤية الإمام أحمد لربه تعالى مناماً فقد ذكرها بعض العلماء واختلف قولهم ما بين مجوِّز ومانع، لكن الذي يستنكر من حديث الإمام قوله إنه سأل ربه عن أفضل العبادات..الخ لأنه لا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وليس الناس بحاجة إلى رؤى ليعرفوا فضل قراءة القرآن أو غيرها من العبادات، وقد قال سبحانه ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا))
ثانياً: قوله (من لا يؤمن بأبي بكر وعمر..الخ) إن كان مراده أن مبغض الصحابة في دينه دخن وفي إيمانه شك؛ فكلامه صحيح لما ثبت من الأدلة المتضافرة الموجبة لحب الصحابة وتعظيمهم رضوان الله عليهم
ثالثاً: قوله بأن ركعة من المتزوج خير من سبعين ركعة من العزب؛ هراء لا قيمة له؛ إذ لا اعتبار للزواج وعدمه بل المعتبر النية الصالحة وموافقة العمل للسنة
رابعاً: وأما حكايته المتضمنة لتفسير عثمان رضي الله عنه لرؤيا تلك المرأة؛ فهذيان لا قيمة له، بل إن فيه طعناً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث لا يشعر، والواجب نصح الإمام المذكور بأن يذكر للناس ما ينفعهم دون تعريج على مثل تلك الأباطيل، والله الموفق والمستعان.