التفسير الإشاري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! فضيلة الشيخ! ما حكم التفسير الإشاري، ذكر الشيخ محمد علي الصابوني رحمه الله تعالى في كتابه” التبيان في علوم القرآن” ثلاثة أقسام للتفسير: 1- التفسير بالماثور 2- التفسير بالرأي 3- التفسير الإشاري. هل هذا التقسيم صحيح؟ هل يوجد في الدين الإسلامي التفسير الإشاري والعلم اللدني؟ أفيدونا إفادة مدللة بارك الله فيكم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فإن التفسير الفيضي أو الإشاري هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التوفيق بينها وبين الظاهر المراد.
وهذا التفسير لا يرتكز على مقدمات علمية، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية، وتنهل على قلبه من سُحُب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.
وهذا النوع ليس بجديد بل عرف قديماً، من لدن نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إليه القرآن، وعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا به.
أما إشارة القرآن إليه، ففي قوله تعالى {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، وقوله {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً}، وقوله {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}
فهذه الآيات كلها تشير إلى أن القرآن له ظهر وبطن. وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى حيث ينعى على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثاً، ويحضهم على التدبر في آيات القرآن الكريم لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام، أو حضهم على فهم ظاهره، لأن القوم عرب، والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولا شكّ. وإنما أراد بذلك أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، وحضَّهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم.
وأما الصحابة فقد نُقِل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا التفسير الإشاري وقالوا به، أما الروايات الدالة على أنهم يعرفون ذلك فمنها:
ما أخرجه ابن أبى حاتم من طريق الضحَّاك عن ابن عباس أنه قال: (إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تُبلغ غايته، فمَن أوغل فيه برفق نجا، ومَن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومُحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجَالِسُوا به العلماء، وجَانِبُوا به السفهاء) وروى عن أبى الدرداء أنه قال: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهاً) وعن ابن مسعود أنه قال: (مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليَثَوِّر القرآن) وهذا الذي قالوه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر.
وأما الروايات الدالة على أنهم فسَّروا القرآن تفسيراً إشارياً، فما رواه البخاري عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: (كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ في نفسه فقال: لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَن حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فقال عمر: (ما أعلم منها إلا مَا تقول)
فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما ابن عباس وعمر، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر، هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الإشارة.
وأيضاً ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى في الآية من سورة المائدة: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} فرح الصحابة وبكى عمر رضى الله تعالى عنه وقال: ما بعد الكمال إلا النقص، مستشعراً نعيه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج ابن أبى شيبة: أن عمر رضى الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك)؟ قال: أبكاني أنَّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: (صدقت).
فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشاري: وهو نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على فهمه هذا.. وأما باقي الصحابة، فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.
غير أن المعاني الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور. ولقد فهم ابن مسعود أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً فقال: (مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليُثَوِّر القرآن) وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}، وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}
ومهما يكن من شيء فإن ظاهر القرآن – وهو المنزَّل بلسان عربي مبين – هو المفهوم العربي المجرَّد. وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذي يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب، هذا هو خير ما يقال في معنى الظاهر والباطن.
ولا يُشترط في فهم ظاهر القرآن زيادة على الجريان على اللِّسان العربي، فكلُّ معنى مستنبَط من القرآن غير جار على اللِّسان العربي فليس من تفسير القرآن في شيء.. لا مما يُستفاد منه ولا مما يُستفاد به. ومَن ادَّعى فيه ذلك فهو مبطل في دعواه.
أما المعنى الباطن، فلا يكفي فيه الجريان على اللِّسان العربي وحده. بل لا بد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان يصير به نافذ البصر سليم التفكير، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمراً خارجاً عن مدلول اللَّفظ القرآني، ولهذا اشترطوا لصحة المعنى الباطن شرطين أساسيين:
أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب بحيث يجرى على المقاصد العربية.
وثانيهما: أن يكون له شاهد – نصاً أو ظاهراً – في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
وقد فصَّل في هذين الشرطين الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى؛ فقال: الشروط التي يجب أن تتوفر في التفسير الإشاري:
أولاً: ألا يكون التفسير الإشاري منافياً للظاهر من النظم القرآني الكريم.
ثانياً: أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.
ثالثاً: ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.
رابعاً: ألا يدَّعى أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر، بل لا بد أن نعترف بالمعنى الظاهر أولاً، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر “ومَن ادّعى فهم أسرار القرآن ولم يُحَكِّم التفسير الظاهر فهو كمن ادَّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب”.
إذا علمتَ هذا، علمتَ بصورة قاطعة أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل ما نُقِل عن بعض المتصوفة من أنه فسَّر قوله تعالى في سورة البقرة {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فقال: معناه “من ذل” من الذل “ذي” إشارة إلى النفس “يشف” من الشفاء “ع” أمر من الوعي!!
وما نُقِل عن بعضهم من أنه فسَّر قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} فجعل “لمع” فعلاً ماضياً بمعنى أضاء، و”المحسنين” مفعوله.
هذا التفسير وأمثاله إلحاد في آيات الله، والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} قال الألوسي في تفسير هذه الآية: “أي ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه”
هذه هي الشروط التي إذا توفرت في التفسير الإشاري كان مقبولاً، ومعنى كونه مقبولاً عدم رفضه لا وجوب الأخذ به، أما عدم رفضه فلأنه غير مناف للظاهر ولا بالغ مبلغ التعسف، وليس له ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية.
وأما عدم وجوب الأخذ به، فلأنه من قبيل الوجدانيات، والوجدانيات لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان، وإنما هي أمر يجده الصوفي من نفسه، وسر بينه وبين ربه. فله أن يأخذ به ويعمل على مقتضاه، دون أن يُلزم به أحداً من الناس سواه.ا.هـــــ والعلم عند الله تعالى