فقه الستر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالأصل هو الستر على المسلم؛ وعدم التحدث بما يكون منه من ذنوب وخطايا؛ وذلك لعموم النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله حييٌّ ستِّير يحب الحياء والستر) رواه أبو داود، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم. وعن دخين أبي الهيثم كاتب عقبة بن عامر، قال: قُلْتُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: إِنَّ لَنَا جِيرَاناً يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ الشُّرَطَ لِيَأْخُذُوهُمْ. قَالَ: لا تَفْعَلْ، وَعِظْهُمْ وَهَدِّدْهُمْ. قَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ. فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَإِنِّي دَاعٍ الشُرَطَ لِيَأْخُذُوهُمْ. فَقَالَ عُقْبَةُ: ويحَكَ لاَ تَفْعَلَ، فَإِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمنٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا موءودة فِي قَبْرِهَا) رواه أحمد وابن حبان. وعن يزيدَ بنِ نُعَيم عن أبيه: أن ماعزاً أتى النبي صلَّى الله عليه وسلم فأقرَّ عندَه أربَعَ مراتٍ، فأمَرَ برجمه، وقال لهزَّالٍ: (لو سَتَرتَهُ بثوبك كان خيراً لك) وهزال هذا كان هو الذي نصح ماعزاً بأن يقر على نفسه بوقوعه في الزنا.
وهذا الأصل يعمل به فيما لو كانت المعصية قاصراً ضررها على فاعلها، فلم يكُ مستعلناً بها ولا مجاهراً بارتكابها ولا مفاخراً بمواقعتها، أما من كان مجاهراً معلناً مفاخراً فإنه لا يستر عليه بل يفضح ويشهَّر به، ومثله من كانت معصيته يعود ضررها على الناس؛ ولذلك أكثر أهل العلم من تجريح الكذابين والوضاعين والقصاصين الذين كانوا لا يتورعون حين يتحدثون بأقوال ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتجد القول الشديد فيهم بحيث يقال في أحدهم: كذاب!! وفي آخر: أكذب الناس!! وفي ثالث: متهم!! وهكذا. بل من كان ضعيف الضبط مخلطاً في حفظه فإنهم يبينون حاله وإن كان صالحاً في نفسه؛ فيقولون: لا يكتب حديثه. أو يقولون: اختلط في آخر عمره. ونحو ذلك من الألفاظ؛ كل ذلك من أجل أن يصونوا الشرع الحنيف من أن يُدخل فيه ما ليس منه، مع أن في أقوالهم تلك ضرراً على أولئك المتكلم فيهم؛ لكن من القواعد المتفق عليها أن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام. وقد قيل:
الذمُّ ليس بغيبةٍ في ستةٍ. متظلِّم ومعرِّف ومحذِّر
ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ. ومن طلب الإعانةَ في إزالة منكر
فهذه أحوال ستة تجوز فيها الغيبة وذكر الشخص بما فيه؛ أولها التظلم، وذلك بأن يقول للقاضي أو الحاكم: فلان ظلمني، فلان أكل مالي، ونحو ذلك مما تعرض بها الشكوى. ثانيها التعريف؛ كما في قولهم: حميد الطويل، سليمان الأعمش، فلان الأعرج، لا يقصدون بذلك ذمه ولا عيبه بل التعريف به، ومنه قوله تعالى {عبس وتولى. إن جاءه الأعمى} ثالثها: التحذير؛ فلو أن شخصاً استشارك في مشاركة فلان أو تزويج فلان؛ فأنت تذكره بما فيه من أجل التحذير منه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها حين قالت: خطبني معاوية وأبو جهم؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أنكحي أسامة بن زيد). رابعها المعلن بالفسق كالمجاهر بالزنا أو المفاخر بشرب الخمر أو تعاطي المخدرات؛ فمثل هذا يفضح، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل له: منع ابن جميل زكاة ماله فقال عليه الصلاة والسلام (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله) خامسها: المستفتي؛ كقول هند بنت عتبة رضي الله عنها عن زوجها أبي سفيان رضي الله عنه: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح مسِّيك، لا يعطيني ما يكفيني وولدي؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ولم ينكر عليها وصفها إياه بأنه بخيل شحيح. السادس: من طلب الإعانة في إزالة منكر؛ كمن قال لك: إن جاري فلان لا يشهد الصلاة مع الجماعة مع قدرته عليها، وقد ناصحته مراراً فلم يستجب فلو ناصحته أنت لعله يستجيب.
ومن هذا الباب أن الحاكم الذي على الناس لو كان واقعاً في بعض المعاصي التي قد تودي بالبلاد والعباد، أو تؤثر على السلامة العامة، أو تجعل لأهل الكفر والنفاق على المؤمنين سبيلا واقتضت المصلحة العامة الحديث عن تلك المعاصي مع من يملك أن يزيلها عنه أو يزيله عنها، فإنه لا بد من ذلك من باب النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولا يمنع من ذلك أن يكون الشخص قد أقسم على ألا يبوح؛ وذلك لأن الأمر يتعلق بالشأن العام لا بشأن خاص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) فلا بد من البيان ثم بعد ذلك أمر الكفارة سهل بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؛ فمن لم يستطع فإنه يصوم ثلاثة أيام يستحب فيهن التتابع، والعلم عند الله تعالى