هل المني طاهر؟
كيف يستقيم القول فيمن يقول بان المني طاهر لأنه أصل الإنسان ومن يقول بان ملابس المحتلم يجب أن تغسل بماء طهور لان غسلها بماء طاهر يزيل النجاسة عينا ويبقيها حكما؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فقد اختلف العلماء رحمهم الله في طهارة المني، حيث روى البخاري رحمه الله عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ). وترجم له أبو عوانة [في مستخرجه 1/448، حديث 395] (بيان تطهير الثوب الذي يصلي فيه من المني والدم والدليل على أن المني طاهر). وفي صحيح مسلم (أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَة فَأَصْبَحَ يَغْسِل ثَوْبه فَقَالَتْ عَائِشَة: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئك إِنْ رَأَيْته أَنْ تَغْسِل مَكَانه فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْت حَوْله. لَقَدْ رَأَيْتنِي أَفْرُكهُ مِنْ ثَوْب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ) قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَهَارَة مِنِّي الْآدَمِيّ، فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة إِلَى نَجَاسَته، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَة قَالَ: يَكْفِي فِي تَطْهِيره فَرْكُهُ إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ أَحْمَد، وَقَالَ مَالِك: لَا بُدّ مِنْ غَسْلِهِ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَقَالَ اللَّيْث: هُوَ نَجِسٌ وَلَا تُعَاد الصَّلَاة مِنْهُ، وَقَالَ الْحَسَن: لا تُعَاد الصَّلَاة مِنْ الْمَنِيّ فِي الثَّوْب وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَتُعَاد مِنْهُ فِي الْجَسَد إِنْ قَلَّ، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّ الْمَنِيّ طَاهِر، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْن عُمَر وَعَائِشَة وَدَاوُدُ وَأَحْمَد فِي أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَقَدْ غَلَط مَنْ أَوْهَمَ أَنَّ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مُنْفَرِد بِطَهَارَتِهِ. وَدَلِيل الْقَائِلِينَ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَة الْغَسْل. وَدَلِيل الْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ رِوَايَة الْفَرْك، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَكْفِ فَرْكه كَالدَّمِ وَغَيْره، قَالُوا: وَرِوَايَة الْغَسْل مَحْمُولَة عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالتَّنَزُّه وَاخْتِيَار النَّظَافَة”. [شرح النووي على مسلم 1/467].
وقد مال القرطبي المالكي إلى مخالفة المذهب في هذه المسألة وردَّ على ابن العربي رحمهما الله في تفسير آية النحل: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ). قال القرطبي: قوله تعالى: (من بين فرث ودم لبنا خالصا) نبَّه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصاً بين الفرث والدم.. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق… (خالصا) يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. قال النقاش: في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضاً غيره، واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً كذلك يجوز أن يخرج المنى على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنى من هذه الحالة حتى يكون ملحقاً به أو مقيساً عليه. قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منة أعظم وأرفع من خروج المنى الذي يكون عنه الإنسان المكرَّم، وقد قال تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، وقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)؛ وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبى وقاص يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذاراً كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جمعاً بين الأحاديث”. [تفسير القرطبي 10/124-126].
والقول بطهارة المني اختيار العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث قال: “أظهر الأقوال دليلاً في هذه المسالة والله أعلم أن المني طاهر لحديث إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هو بمنزله المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة)، وهذا نص في محل النزاع. وقد قدَّمْنا عن صاحب (المنتقى) أن الدارقطني قال: لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، وأنه هو قال: قلت: وهذا لا يضر؛ لأن إسحاق إمام مخرَّج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته. انتهى. وقد قدمنا مراراً: أن هذا هو الحق. فلو جاء الحديث موقوفاً من طريق وجاء مرفوعاً من طريق أخرى صحيحة حُكِم برفعه؛ لأن الرفع زيادة، وزيادات العدول مقبولة، قال في مراقي السعود:
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ- إلخ
وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة، ولا سيما أن لها شاهداً من طريق أخرى. قال ابن حجر (في التلخيص) ما نصه: فائدة: روى الدارقطني والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس، قال: سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ قال: (إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق – وقال – إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة وإذخرة)، ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه البيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفاً، قال البيهقي: الموقوف هو الصحيح انتهى. فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة. واعلم أن قول البيهقي رحمه الله: والموقوف هو الصحيح لا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة؛ لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة. وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول، ولكن الحق: أن الرفع زيادة مقبولة من العدل، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني، وهي نص صريح في محل النزاع، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني”. [أضواء البيان 3/30-31].