تعبد النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وعدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
هذا هو الدرس الثالث في هذه الدورة المباركة، وقد تقدم معنا الكلام في الدرس السابق عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدوم رمضان، وعرفنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يتهيأ لاستقبال رمضان بصيام أيام كثيرة من شعبان، وأنه صلوات ربي وسلامه عليه كان معنياً ببيان أحكام الصيام لأصحابه قبل قدوم رمضان.
وكذلك كان يبشرهم عليه الصلاة والسلام بما أعد الله من الأجر والثواب لمن صاموا وقاموا وأحسنوا في رمضان.
وأنه ما كان يدخل في الصيام إلا ببينة، إما برؤية الهلال أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً.
والكلام في هذا الدرس -إن شاء الله- عن: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.
بمعنى: كيف كان صومه وقيامه واعتكافه وقراءته للقرآن؟ وما هي أنواع الخير وأصناف البر التي كان يحرص عليها صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا كله مما سنعرض له في هذا الدرس إن شاء الله.
وبداية أقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعبد الخلق لربه جل جلاله، وما عرفت الدنيا إنساناً عبد ربه وأحسن فيما بينه وبين مولاه مثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ربنا جل جلاله وصفه بالعبودية في أعلى المقامات وأفضلها، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ[الإسراء:1]، وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ[الكهف:1]، وقال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا[البقرة:23]، وقال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، وقال عن نفسه صلوات ربي وسلامه عليه: ( إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد ).
ومن عبوديته صلوات ربي وسلامه عليه لربه: أنه كان يتلذذ بالعبادة، فما كان يراها تكليفاً شاقاً ولا أمراً ممضاً؛ وإنما كان يجد فيها لذة وحلاوة وأنساً، وكان يشتاق إلى العبادة؛ ولذلك كان في الصلاة يقول لـبلال : ( أرحنا بها يا بلال ).
وكذلك في قيام الليل، كما ثبت من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي، فقالت: يا رسول الله! إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل حجره، ثم بكى حتى بل لحيته، ثم بكى حتى بل الأرض، فلا يزال يبكي صلوات ربي وسلامه عليه حتى جاء بلال رضي الله عنه يؤذنه بالصلاة، فقال: يا رسول الله! لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟، فقال له عليه الصلاة والسلام: لقد نزلت علي آيات، ويل لمن قرأها ولم يتدبرها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] ) الآيات العشر إلى آخر سورة آل عمران.
فعبادته صلوات ربي وسلامه عليه كانت عبادة المحب، عبادة الذليل بين يدي العزيز جل جلاله، عبادة المشتاق، وليست عبادة من يرى العبادة تكليفاً يريد أن يلقيه عن كاهله، ويريد أن يبرئ ذمته وأن يتخلص منه على أي وجه كان، بل هي عبادة المجود المتقن الذي يجد فيها لذة وحلاوة وأنساً، ويدخلها بشوق.
ومن ذلك عبادة الصيام.
أهم الأمور التي كان يحرص عليها النبي في رمضان
نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص في الصيام على أمور، منها:
تعجيل الإفطار
كان يحرص على أن يعجل فطره، ويحافظ على سحوره ويؤخره، ويفطر على تميرات، فإن لم يجد فعلى رطبات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء.
ومن ذلك أنه صلوات ربي وسلامه عليه كان متواضعاً في إفطاره وسحوره، وهذا كله من أحواله في الصيام، ومن سنته صلوات ربي وسلامه عليه.
أما كونه يعجل الفطر، فقد أخبرنا صلوات ربي وسلامه عليه: ( أنه لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )، وأن ( أحب الناس إلى الله أعجلهم فطراً )، ولما طلب من بعض الصحابة أن يهيئ له فطوره، فقال له الصحابي: بعد يا رسول الله! أي: لم يدخل الليل! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )، يعني: بمجرد تحقق غروب الشمس، ينبغي للإنسان أن يبادر إلى الإفطار ولا يؤخر ذلك ولا يسوف.
ومن هنا نعلم خطأ بعض الناس الذين يتنطعون بعد أن تغرب الشمس وقد سمعوا الأذان، فيقول قائلهم: أصبر حتى يؤذن المسجد الآخر! فإذا أذن يقول: أصبر حتى أسمع أذان الإذاعة أو التلفاز! ثم يقول: أصبر إلى أن يفرغ المؤذن من أذانه! فهذا كله من مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
محافظته على السحور
ومن أحواله أنه عليه الصلاة والسلام كان يحافظ على السحور، ولا يفرط فيه، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن في السحور بركة، فقال بالأمر: ( تسحروا فإن في السحور بركة )، قال علماؤنا: والبركة من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: بركة الوقت؛ لأن السحور يكون في وقت مبارك، وهو ثلث الليل الآخر.
الوجه الثاني: من جهة أنه يقوي على العبادة، ويعين على الصيام.
الوجه الثالث: من جهة أنه يقترن مع عبادة غالباً، يعني: الإنسان إذا قام للسحور فإنه: إما أن يركع ركعات، وإما أن يرتل آيات، وإما أن يدعو، وإما أن يستغفر، وإما أن يتهيأ لصلاة الصبح؛ فالسحور في الغالب تقترن معه عبادة؛ ومن أجل هذا كان فيه بركة.
وقال عليه الصلاة والسلام: ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )، وقال: ( لا يدعن أحدكم سحوره ولو على جرعة ماء ).
تأخيره للسحور
وقال: ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث: بتعجيل فطورنا، وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على مياسرنا في الصلاة ).
ولذلك كان من هديه تأخير السحور، وليس كما يصنع الناس الآن بأنهم يأكلون وجبة تسمى العشاء عند منتصف الليل، ثم بعد ذلك ينامون، فأقول: ليس هذا من السنة، بل السنة أن يستيقظ الإنسان قبل طلوع الفجر الصادق فيأكل تمرات أو يحسو حسوات من ماء، أو أي شيء.
قال علماؤنا: يتحقق السحور بأي شيء يدخله الإنسان في جوفه.
والمطلوب في السحور تـأخيره؛ لأن الصحابة هكذا كانوا يفعلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال قائلهم: ( كنت أتسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يكون بي سرعة أن أدرك الصلاة ).
وقال عمرو بن ميمون الأودي : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً.
وأما حديث زيد رضي الله عنه فقد قال: ( تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قيل له: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية ).
قال علماؤنا: خمسون آية لا بالطويلة كآية الدين، ولا بالقصيرة كقوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، وإنما قدر خمسين آية متوسطة.
حرصه على الدعاء عند الإفطار
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم: حرصه على الدعاء عند الإفطار، فقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام: ( أن للصائم دعوة لا ترد عند فطره )، وقوله: (عند فطره)، يشمل ما كان قبيل الإفطار وما كان بعيد الإفطار، ولكن الأقرب أن يكون قبيل الإفطار؛ لأن النفس في ذلك الوقت منكسرة، والبطن فارغة، والضعف حاصل، والخشوع متوقع؛ فهذا أقرب لحصول الإجابة.
وكثير من الناس يغفلون عن الدعاء عند الإفطار، يعني: وهم في انتظار الأذان تجد أكثر الناس منشغلين بالكلام والمؤانسة، فيتحدثون: بأن اليوم كان شديد الحر، أو أن اليوم نزل فيه مطر، أو أن اليوم حصل كذا وكذا، إلى أن يؤذن المؤذن فينهمكون في إفطارهم وهم غافلون عن الدعاء.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تناول تميرات أو رطبات أو حسا حسوات من ماء يقول: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت )، ( ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله )، هكذا كان صلوات ربي وسلامه عليه يدعو عند الإفطار.
حرصه على السواك في أي وقت من الصيام
ومن أحواله في الصيام: حرصه على السواك؛ لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي، يستاك وهو صائم )؛ فقوله: (ما لا أحصي) يعني: لم أره مرة ولا مرتين ولا عشراً؛ وإنما رأيته مراراً يستاك وهو صائم.
فجمهور العلماء قالوا: لا فرق في السواك بين أن يكون في أول النهار أو في آخره، أو قبل الزوال أو بعده، ولا فرق بين أن يكون بعود يابس أو بعود رطب.
وأقول: ولا فرق كذلك بين أن يكون بعود الأراك أو أن يكون بفرشاة ومعجون، فكل هذا لا مانع منه؛ لأن المعجون ليس طعاماً ولا شراباً، ولا هو في معنى الطعام والشراب، ولا يتغذى به الإنسان، ولا يستفيد به قوة، ولكن ينبغي له أن يحرص ألا يسبق إلى جوفه منه شيء؛ لما سبق في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).
فكذلك الإنسان إذا استاك، سواء كان بعود الأراك أو بفرشاة ومعجون، فليحرص على ألا يسبق إلى جوفه من ذلك شيء.
وبعض أهل العلم كرهوا السواك بعد الزوال، وقالوا: لأنه يذهب بالخلوف، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( والذي نفسي بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ).
فقوله: (خلوف فم الصائم) أي: تغير رائحة فمه؛ وذلك بسبب خلو المعدة من الطعام، فهذه الرائحة مستكرهة عند الناس، ولا يستطيبونها، ولكنها مستحبة عند الله؛ لأنها أثر من آثار طاعته، فلم تتغير رائحة فم الصائم؛ لأنه تناول مسكراً أو أكل شيئاً ذي رائحة كريهة؛ وإنما تغيرت رائحة فمه لأنه أخلى معدته من الطعام؛ وذلك تعبداً لله عز وجل؛ مثلما قال عليه الصلاة والسلام في دم الشهيد: ( ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه ينزف، اللون لون الدم والريح ريح المسك ).
ونحن لا نستحب الدم، ولكن هذا الإنسان لما كان دمه قد نزف في سبيل الله وفي طاعة الله، فإنه يوم القيامة يأتي وكلمه ينزف دماً وريحه ريح المسك.
وليس معنى ذلك أن يحرص الإنسان على استبقاء الخلوف، أو أن يعتني بجلبه، فليس الأمر كذلك، وعلى هذا لا مانع من أن يستاك الإنسان في أول النهار أو في آخره، سواء كان بعود الأراك أو بفرشاة ومعجون، كل هذا لا مانع منه إن شاء الله.
من أحواله صلى الله عليه وسلم في نهار رمضان
ومن أحواله صلوات ربي وسلامه عليه في الصيام: أنه كان يصبح أحياناً جنباً؛ ففي بعض الأيام كان عليه الصلاة والسلام يجامع أهله من الليل ولا يغتسل، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ( يا رسول الله! أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ فليرقد ).
ويمكن للإنسان في رمضان أو في غير رمضان أن تصيبه جنابة، ثم لا يغتسل بالليل ولكن يتوضأ ويرقد، ثم بعد ذلك يغتسل إذا قام لصلاة الليل أو لصلاة الصبح، بعدما يطلع الفجر.
وكان صلوات ربي وسلامه عليه أحياناً تصيبه الجنابة، فينام دون أن يمس ماءً أصلاً.
ففي رمضان كان عليه الصلاة والسلام يصبح جنباً من جماع أهله غير محتلم فيغتسل ويصوم، وهذا السؤال يكثر في رمضان، فبعض الناس يقول: أنا جامعت أهلي ولم أغتسل، وطلع علي الفجر وأنا جنب، فما حكم صومي؟ نقول له: صومك صحيح، وقد وافقت السنة، ولا حرج عليك في أن تغتسل بعد طلوع الفجر وأن تواصل صومك.
وكذلك فإن المرأة إذا طهرت قبل الفجر ولو بلحظة ولم تغتسل؛ فإنها تنوي الصيام في تلك اللحظة، ولا حرج عليها أن تغتسل بعد طلوع الفجر.
بعض الرخص التي كان يأخذ بها النبي حال الصيام
ومن أحواله صلوات ربي وسلامه عليه: أخذه بالرخص ومن ذلك:
صبه الماء على رأسه عند اشتداد الحر، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصوم والحر شديد فيصب الماء على رأسه ليتبرد، فدل على أنه لا حرج في ذلك؛ فقد ورد في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش، أو قال: من الحر ).
وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان أنس بن مالك عنده حوض ينغمس فيه وهو صائم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو من هو! في حرصه على متابعة السنة، كان يبل ثوبه ويلتحف به وهو صائم، وكأنه نوع من التكييف، كأنه يكيف نفسه وهو صائم؛ من أجل أن يستعين بذلك على طاعة الله عز وجل.
وكذلك قال ابن مسعود : إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهيناً مترجلاً، فلو أن شخصاً كان صائماً صيام تطوع، فلا يكون حريصاً على أن تكون شفتاه يابستين ويظهر عليه التعب، وكلما سأله سائل: ما بالك؟ يقول: والله! أنا صائم، ومثلما أنتم تعرفون أن درجة الحرارة تكون اثنتان وأربعون أو ستة وأربعون درجة وكذا، فهذا عمل لا ينبغي. وإنما الصائم يدهن ويترجل، أي: يسرح رأسه؛ من أجل أن يبدو أمام الناس كأنه ليس بصائم؛ ولئلا يسأله سائل فيقع في الرياء.
ولذلك نقول: لا مانع أن يبقى الإنسان في أجهزة التبريد، فلو وجد مكيفاً؛ فالحمد لله على نعمته! ولا يقول: لا أريد، بل أنا لا بد أن أخرج في الحر؛ فالمشقة ليست مطلوبة لذاتها؛ ولذلك قال أهل العلم: كل ما يخفف العبادة عن الشخص ويمكنه من أدائها وهو نشط مطمئن مقبل على ربه فهو أمر مطلوب.
وكل مشقة يمكن الانفكاك عنها والتخلص منها مع أداء العبادة على وجهها فهي من مقصودات الشرع.
أما المشقة التي لا بد منها ولا خلاص منها فإنها تزيد الأجر.
فمن المشقة التي يمكن التخلص منها مثلاً: في قلب الشتاء إذا اشتد البرد، فإن الإنسان إذا استطاع أن يسخن الماء ويغتسل أو يتوضأ، فلا مانع.
وكذلك في شدة الحر، فلو أن الإنسان أخذ ماء من الزير أو ماء بارداً فصبه على رأسه أو اغتسل به أو انغمس في حمام سباحة كما يقولون، أو في ترعة أو في كذا؛ من أجل أن يتبرد فلا مانع من هذا.
أما المشقة التي لا بد منها؛ كالمشي إلى صلاة الجماعة، فأنت مأجور، فمثلاً: في صلاة الظهر أو صلاة العصر في الصيام مع شدة الحر تمشي وأنت مأجور؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( أجرك على قدر نصبك )؛ فالأجر على قدر التعب.
مضمضته واستنشاقه
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم في الصيام: مضمضته واستنشاقه، وقد سبق ذكر حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه.
وكذلك لما جاءه عمر وقال له: ( يا رسول الله! هششت فقبلت وأنا صائم؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو تمضمضت )؟ يعني: تمضمضت وأنت صائم، قال: ( لم يكن في ذلك شيء يا رسول الله! )، أي: لا مانع من المضمضة، قال له: ( ففيم ) أي: فلماذا تسأل؟ فطالما أنك تتمضمض وأنت صائم؛ إذاً: يجوز لك أن تقبل وأنت صائم، ولكن هذا سيأتي بيان قيده إن شاء الله.
اختصاصه بالوصال دون غيره
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم وهو خاص به: وصاله في الصيام أحياناً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يواصل في الصيام أحياناً؛ فيصوم في النهار فإذا غربت الشمس لا يطعم شيئاً، أي: لا يذوق ذواقاً، ويواصل عليه الصلاة والسلام ويصبح اليوم الذي بعده صائماً، وربما واصل أسبوعاً كاملاً لا يتخلله طعام ولا شراب.
ولما حاول بعض الصحابة أن يحاكوه في ذلك قال لهم عليه الصلاة والسلام: ( إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، وللعلماء -رحمهم الله- في ذلك تفسيران:
التفسير الأول: حمل الحديث على ظاهره (على حقيقة اللفظ)، فقوله: ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، أي: الطعام الحسي والسقيا الحسية.
الوجه الثاني: قال بعضهم: لو كان طعاماً حسياً لما كانت هناك مزية، ولا خصوصية، فليس المراد به الطعام الحسي أو الشراب المعروف، وإنما المراد: أن الله عز وجل يفيض على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم من لذة العبادة وحلاوة المناجاة ما يشغله عن الطعام والشراب.
مثال ذلك: لو أن رجلاً من الناس عنده ثلاث بنات قد بلغن من الكبر عتياً، وبعضهن قد اشتعل رأسها شيباً، وهو يدعو الله بالليل والنهار بأن يرزقهن أزواجاً صالحين، فقدر الله عز وجل في أسبوع واحد أن يأتي ثلاثة رجال فيطلبون بناته الثلاث، وحدد موعد العقد يوم الخميس -مثلاً- وفي يوم الخميس هذا فرح الرجل بتزويج هؤلاء البنيات الثلاث فشغله ذلك الفرح عن الإفطار والغداء رغم أنه مفطر، ولكنه خلال يومه كله ما انتبه إلى فطور ولا غداء؛ لأنه كان مشغولاً بإكرام أضيافه وتهيئة أمرهم حتى يأتي وقت العصر أو قبيل المغرب، فيحصل الإيجاب والقبول، وينام بخير ليلة منذ ولدته أمه.
فهذا الرجل شغله عن الطعام والشراب فرحه بتزويج بنياته اللائي طال أمدهن.
وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادته لربه ومناجاته لمولاه وقيامه بين يدي سيده يشغله عن الطعام والشراب، فلا يشعر بحاجة إليه.
وهذا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مخصوص، أما نحن -معشر أمته- فقد نهينا عن الوصال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الوصال فقال: ( لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر )، يعني: من أراد أن يواصل منكم فحده إلى وقت السحر، أي: فلا بد بعد ذلك أن يطعم وأن يشرب، قالوا: وهذا من باب الجائز، لا من باب المشروع.
صومه في السفر وإفطاره
ومن أحواله صلوات ربي وسلامه عليه في الصيام: أنه كان إذا سافر ربما صام وربما أفطر، يعني: كان الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بحسب التوسعة وبحسب اليسر، ( وما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً )؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يصوم في السفر مع شدة الحر، كما سبق ذكره في حديث أبي الدرداء: ( كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الشديد الحر، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم و عبد الله بن رواحة )، فيقول أبو الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري رضي الله عنه: لا يوجد في هؤلاء المسافرين صائم إلا النبي عليه الصلاة والسلام و عبد الله بن رواحة رضي الله عنه؛ ولذلك قال عبد الله بن عباس : ( صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر ).
ولذلك لو أن شخصاً سافر في رمضان فوجد إنساناً صائماً أو مفطراً، فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر؛ فقد قال الصحابة رضي الله عنهم: ( كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)، أي: أن كله جائز.
لكن نقول: إذا لم تكُن هناك مشقة عليك فخير لك أن تصوم؛ وذلك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: عموم قول ربنا عز وجل: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة:184].
الوجه الثاني: لما في ذلك من إبراء للذمة، وخروج من عهدة التكليف.
الوجه الثالث: لأن الأداء أفضل من القضاء؛ فمن صام في رمضان فقد أدى، أما من أفطر فإنه بعد ذلك سيقضي.
ثم إن الصيام في رمضان أيسر من الصيام في غيره؛ لأن في رمضان يصوم الناس كلهم معك، ولكنك لو أفطرت في رمضان فلربما شق عليك القضاء بعد ذلك وأنت ترى الناس ما بين آكل وشارب وما إلى ذلك.
خروجه من الصيام ببينة
ومن أحواله صلوات ربي وسلامه عليه: أنه ما كان يخرج من الصيام إلا ببينة؛ إما برؤية محققة، أو بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، فما كان يخرج من رمضان ولا يقطع الصيام بناء على الشك؛ وهو الذي علمنا ذلك بقوله: ( لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )، يعني: سواء كان عدة شعبان أو عدة رمضان.
وقد تقدم معنا الكلام عن مسألة الحساب الفلكي، وأن جماهير العلماء من السلف والخلف لا يعتمدونه في إثبات دخول الشهر ولا في خروجه.
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان
ثم بعد ذلك أعرض مسألة مهمة من أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان وهي حاله في القيام.
وجوب القيام في حقه
فنبينا عليه الصلاة والسلام أنزل الله عليه في القرآن قوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:1-4].
يقول كثير من أهل العلم: إن قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم كان واجباً، وهذا من خصائصه؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه ما لا يجب على أمته، ويحرم عليه ما لا يحرم على أمته، ويحل له ما لا يحل لأمته؛ فمثلاً: يجب على النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل، ولا يجب علينا؛ لأنه في حقنا نافلة.
ويجب على النبي صلى الله عليه وسلم الصبر أمام العدو ولو كانوا ألفاً؛ فلو كان أمامه ألف مقاتل من العدو فيحرم عليه الفرار عليه الصلاة والسلام، وحاشاه أن يفر!
ولذلك في يوم أحد كان النبي عليه الصلاة والسلام قد هشمت البيضة على رأسه من كثرة الضربات التي وجهت إليه صلى الله عليه وسلم فلم يفر، مع أنه فر من الصحابة كثيرون، حتى إن بعضهم ما ردته إلا حيطان المدينة، وأنزل الله عز وجل فيهم قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155].
فالنبي عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم صبر وصابر ورابط، وكان صلوات ربي وسلامه عليه لا يوجد حوله إلا القليل من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن الخصوصية في حقه: أن النبي عليه الصلاة والسلام كانت تحرم عليه الصدقة بجميع أنواعها، سواء كانت من الزكاة المفروضة أو من صدقة التطوع، بينما يجوز للإنسان إذا كان من أهل الصدقة أن يقبلها.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحل له ما لا يحل لنا؛ فيحل له أن يتزوج بأكثر من أربع، ويحل له أن يتزوج المرأة من غير ولي؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ويحل له أن يتزوج من غير شهود ولا صداق، كما قال ربنا عز وجل: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ[الأحزاب:50].
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه أن يقسم بين نسائه، أما نحن فلو كان عند أحدنا أكثر من امرأة، فيجب عليه أن يعدل بينهن في النفقة والمبيت.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجب عليه القسم بين نسائه؛ لأن الله قال له: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ[الأحزاب:51].
فمن خصوصياته صلوات ربي وسلامه عليه: أن قيام الليل في حقه واجب، ويجب عليه أن يقوم من الليل، وما كان قيامه بالليل خاصاً برمضان، وإنما كان يقوم في رمضان وفي غير رمضان.
التنويع في عدد ركعات القيام
أما حاله صلى الله عليه وسلم في القيام: فإنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعةً في قيام الليل، عليه الصلاة والسلام سواء كان في رمضان أم في غير رمضان.
وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، على خلاف بين أهل العلم، هل الركعتان الزائدتان من صلب القيام، أو أن المقصود بهما ركعتا الفجر.
وقد تنوعت الكيفيات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، لكن هديه المطّرد أنه: ( كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر بواحدة ).
وأحياناً كان صلوات ربي وسلامه عليه: ( يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث ).
وأحياناً كان صلى الله عليه وسلم: ( يصلي ثمان ركعات متصلات لا يجلس إلا في آخرهن )، يعني: يصلي ركعة وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة، ثم يجلس فيتشهد، ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم فالمجموع إحدى عشرة ركعة.
وأحياناً كان صلوات ربي وسلامه عليه: ( يصلي خمساً، ثم يسلم، ثم يأتي بست ركعتين، ركعتين، ركعتين )، وكل هذه سنة، ويستحب للإنسان أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا في جميع السنن.
التنويع في أدعية الركوع
فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أحياناً كان في الركوع يقول: ( سبحان ربي العظيم )، وأحياناً يقول: ( سبحان ربي العظيم وبحمده )، وأحياناً يقول: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )، وأحياناً يقول: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي )، وأحياناً يقول: ( سبحان ذي الجبروت والملكوت الكبرياء والعظمة )، وأحياناً يقول: ( اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين )، فيستحب لك أن تفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة، فلا تتمسك بواحد لا تحيد عنه.
التنويع في أدعية الاستفتاح
وكذلك مثلاً: دعاء الاستفتاح؛ فأحياناً كان يقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك )، وأحياناً كان يقول: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من الخطايا والذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس )، وأحياناً كان يقول: ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ).
وكان في صلاة الليل صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ( اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم -أو قيام- السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت )، ولكن لو كنت إماماً بالناس فلا تقل هذا الدعاء الطويل؛ لأن الناس لن يصبروا.
فالمقصود أن الإنسان يفعل هذا أحياناً، وهذا أحياناً، وأحياناً كان صلى الله عليه وسلم يقول بدعاء الاستفتاح القصير وهو: ( الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً )، وأحياناً يقول في الاستفتاح: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ).
من فوائد التنويع في الأدعية والقراءة
فالمقصود أنك تنوع بين هذا، والتنويع فائدته أن تأتي بالسنة كلها، وبه يطرد الملل عن النفس، ويجلب الخشوع، وإلا لصارت صلاة الإنسان بصورة أوتوماتيكية، أي: أنه قد عود نفسه دائماً أن يقول: الله أكبر، وبعدها يقول: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى إلى آخره .. وفي الركوع يقول: سبحان ربي العظيم فقط؛ فإن ذلك يأتي بالملل.
وبعض الناس حتى في الآيات أو السور، وهذا الحال عند بعض الأئمة؛ فتكون عنده آيات معينة لا يحيد عنها، حتى إن الناس يقولون: الليلة سيقرأ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، وفعلاً: فإنك تذهب تصلي فتسمعه يقرأ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1]، كأنهم حفظوا أن هذا الإمام لا يحيد عن سور معينة.
صلاته في القيام منفرداً دون جماعة خشية أن تفرض على الأمة
وكذلك كان من أحواله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل في رمضان: أنه كان يصلي منفرداً وحده عليه الصلاة والسلام، فقد صلى بأصحابه ليلتين أو ثلاثاً، يعني: صلى فقام بعضهم خلفه، ثم جاء آخرون حتى امتلأ المسجد، وفي الليلة التي يليها نفس الشيء، وكذا في الليلة الثالثة أو الرابعة صلى بهم العشاء ثم دخل بيته، فجلس الصحابة ينتظرون، ثم بعد ذلك بدءوا يحصبون بابه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المسجد لم يكن فيه فرش، وإنما كان من الحصى، كأنهم يقولون: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم نام، فما خرج عليهم إلا بعدما طلع الفجر، ومعناه: أن السحور فات عليهم وقته.
فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ( ما خفي علي صنيعكم، والله! ما بت غافلاً، ولكني خشيت أن يفرض عليكم )، أي: أن يفرض عليكم قيام رمضان؛ ولذلك رحمة بهم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم.
واستمر هكذا الهدي فيهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم إذا صلوا العشاء ابتدروا سواري المسجد ولهم بالقرآن دوي كدوي النحل، وكانوا يقرءون بالمئين، يعني: الواحد منهم في الركعة يقرأ مائة آية فما فوق، حتى كانوا يستندون على العصي من طول القيام.
واستمر الحال هكذا في بقية أيام النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد الصديق أبي بكر حتى كان زمان عمر رضي الله عنه فجمعهم على أقرئهم وهو أبي بن كعب وكان أحياناً يعينه ويساعده في ذلك تميم بن أوس الداري رضي الله عن الجميع.
فصارت سنة متبعة في المشارق والمغارب في رمضان: أن المسلمين يصلون بعد العشاء صلاة القيام في المساجد.
والحمد لله ففي السنوات المتأخرة والناس في صلاة القيام أعدادهم في زيادة، ويشترك فيها الرجال والنساء والكبار والصغار، فنسأل الله المزيد من فضله!
الحرص على الإمام صاحب الصوت الجميل
وهنا مسائل ننبه عليها وهي:
المسألة الأولى: أنه لا حرج على أي شخص أن يخرج من بيته إلى المسجد البعيد، يعني: لو أن إنساناً يسكن في مكان بعيد عن المسجد الذي يصلي فيه صلاة القيام، فخرج يبتغي إماماً ذا صوت حسن وأداء جيد، ويحصل معه خشوع القلب وتدبر القرآن، فلا حرج في ذلك؛ ويدل على ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فقد اختار ابن مسعود من بين الناس؛ لأن قراءته للقرآن كانت غضة طرية وكان صوته جميلاً.
فقال عليه الصلاة والسلام: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد و )، ابن أم عبد، هو: عبد الله بن مسعود .
( وفي إحدى الليالي كان ابن مسعود قائماً يصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، وكان أبو بكر وعمر مع النبي عليه الصلاة والسلام يسهرون في مصالح المسلمين )، يعني: عندهم اجتماع بعد العشاء، ( فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم ينقلب إلى بيته خرج معه أبو بكر و عمر يشيعانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف يسمع قراءة ابن مسعود وطال وقوفه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله، فلما ختم ابن مسعود صلاته بدأ يدعو، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: سل تعط )، و ابن مسعود لا يرى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يسمعه! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( سل تعط )؛ فوفق الله ابن مسعود إلى ثلاث دعوات جمعت خيري الدنيا والآخرة، فقال: ( اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وأسألك مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد )، وكله تحقق، ( فقد جاء عمر في الصباح ليبشر ابن مسعود ، فقال له ابن مسعود : قد أخبرني أبو بكر ).
وكذلك عمر رضي الله عنه كان يقول لـأبي موسى : يا أبا موسى ! ذكرنا ربنا؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه كان قد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أوتي مزماراً من مزامير آل داود، وهذا واضح أن هناك فرقاً بين أن تصلي خلف إمام يقرأ قراءة عادية: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:2-4]، وبين إمام آخر يرتل القرآن ترتيلاً، فلا حرج عليك أن تطلب الإمام الحسن الصوت، والجيد الأداء الذي يفهم المعاني، وهناك أئمة أصواتهم جميلة ولكنهم لا يراعون معاني القرآن؛ فمثلاً واحد من الأئمة صلى فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ [الإسراء:25] وسكت، ثم قرأ: فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً [الإسراء:25]، وبعد الصلاة قلت له: فإن لم نكن صالحين فربنا لا يعلمنا، يعني: أفسد المعنى بهذا الوقف القبيح.
وبعض الأئمة قرأ في بعض البلاد قول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ[المائدة:116]، وسكت ثم بدأ القراءة فقال: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]، فقام له واحد بعد الصلاة فقال له: ما يكفي أنت أن تكون إلهاً، كمان أمك! يعني: نتخذك وأمك إلهين من دون الله؟!
فالمقصود -وهذا الكلام للائمة- أنه لا بد من مراعاة المعاني أثناء قراءة القرآن فلا نقف أو نبتدئ إلا على وجه صحيح.
الحرص على المساجد المهيأة لإتقان العبادة بخشوع
وكذلك لا مانع من أن أقصد المسجد المهيأ، فإذا كان المسجد مكيفاً وكذا، فلا مانع أن أقصده، بدلاً من أصلي في مسجد شديد الحر، فيصير حالي في أثناء الصلاة: تارة أمسح وتارة أحك، وأقول: اللهم عجل فرجنا وخلصنا، وكذا، وتزداد نقمتي على الإمام كلما طالت صلاته.
فلا بأس أن أقصد المسجد المهيأ، لا اعتقاداً مني أن مسجداً يفضل مسجداً، وإنما طلباً للعبادة المتقنة المهيأة.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان من أحواله في صلاة الليل: أن يصلي وحده، ولكن بعد ذلك افترضت سنة المسلمين بفعل عمر رضي الله عنه وهو المحدث الملهم: أن يجتمعوا في قيام الليل في رمضان في مساجدهم، ولهم بالقرآن دوي كدوي النحل.
إطالة القيام
ومن أحواله صلوات ربي وسلامه عليه إطالة القيام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ( في قيام الليل كانت صلاته طويلة، فربما قرأ في الركعة الواحدة بالبقرة وآل عمران والنساء، ثم ركع فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم رفع فلم يزل يقول: لرب الحمد، لرب الحمد، لرب الحمد، حتى كان قيامه قريباً من ركوعه ) صلوات ربي وسلامه عليه.
ولذلك نقول: إن من الخطأ أن بعض الأئمة في بعض المساجد يعمدون إلى تخفيف صلاة التراويح تخفيفاً مخلاً، ولا يتقيدون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحاولون أن يتشبهوا به.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين.