رسالة إلى موسوس
رسالة إلى موسوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فإن الوسوسة داء عمت به البلوى، وكثرت بسببه الشكوى، وقلَّ أن يمر يوم دون سؤال عنه؛ حتى تحولت حياة بعض الناس إلى جحيم لا يطاق، وظن بعضهم بنفسه الظنونَ؛ حتى إن الواحد منهم يقول لنفسه: لربما أكون قد كفرت بالله وأنا لا أدري!! وآخر يعتقد عدم صحة طهارته ولا صلاته!! وثالث يعيش في جحيم عائلي لكثرة ما ينتابه من الشكوك والهواجس فيمن حوله من الناس!! ورابع وخامس وسادس؛ وإنه ليُخيَّلُ للمرء أحياناً أن أكثر أهل الأرض موسوسون!! فما هي الوسوسة؟ وما الأسباب التي تؤدي إليها؟ وما علاجها؟ هذه كلمات أردت بها النصح لإخواني المسلمين؛ تعاوناً معهم على البر والتقوى، ورداً لكيد الشيطان وجنوده؛ عملاً بقول ربنا U )إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير([1]
أولاً: ما هي الوسوسة؟
الوسوسة: هي ما يلقيه الشيطان في القلب من الخطرات الرديئة وعمل الشر، وتطلق على الصوت الخفي وحديث النفس، يقول الله I )ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً([2] ويقول U )ومن يعش عن ذكر الشيطان نقيض له شيطاناً فهو له قرين [3](وهذه الوسوسة قد تكون من الشيطان الإنسي وقد تكون من الشيطان الجني؛ فهما يشتركان فيها مثلما يشتركان في الوحي؛ يقول سبحانه )وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون([4] ويقول سبحانه )وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا([5] وفي تفسير قوله تعالى )الذي يوسوس في صدور الناس $ من الجنة والناس([6] يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: يعني أن الوسواس نوعان: إنس وجن؛ فإن الوسوسة الإلقاء الخفي؛ لكن الإلقاء الإنسي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها.أ.هـ
ثانياً: تاريخ الوسوسة
بدأت منذ أن خلق الله أبانا آدم u فأضمر إبليس في نفسه نية الشر فقال مخاطباً آدم u ولما تنفخ الروح فيه بعد: لأمرٍ ما خُلِقْتَ!! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ عليَّ لأعصينك[7]. فكان ما حكاه ربنا Y في القرآن من أمره للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس ـ كبراً وحسداً وبغياً ـ فصيَّره الله شيطاناً رجيماً، وأحلَّ عليه لعنته، وطرده من جنته، فكان لا بد من الانتقام وفاءً بالعهد الذي قطعه على نفسه )فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم $ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين([8] فبدأ بأبي البشر u ليخرجه من الجنة كما خرج )فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى([9] واستعمل ـ لعنه الله ـ الأيمان الفاجرة زيادةً في الإغواء والإغراء )وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [10](يقول ابن كثير رحمه الله: أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، وقال قتادة في الآية: حلف بالله إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكم فاتبعاني أرشدكما، وكان بعض أهل العلم يقول: من خدعنا بالله انخدعنا له.أ.ه[11]ـ ولكن الله تبارك وتعالى لم يحقق لإبليس أمله؛ فألهم آدم التوبة )فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم[12]( بل زاده الله رفعة )ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى([13] فازداد عدو الله حنقاً وغيظاً إذ لم يتحقق له مراده، فأعلن الحرب على ذرية آدم؛ وصار حريصاً على عنتهم وعذابهم؛ وغاية أمله أن يوقعهم في الكفر بربهم ليخلدوا في العذاب المهين؛ فإن لم يحصل له ذلك فلا بد من أن ينصب لهم مصيدة الذنوب كبائرها وصغائرها؛ ليشفي غيظه؛ وهو في هذا كله يوسوس لابن آدم كلما غفل عن ذكر الله؛ ليحمله على معصية الله أو ترك طاعته I.
ثالثاً: مجالات الوسوسة
1ـ في العقيدة: يحرص الشيطان ـ قاتله الله ـ على أن يلقي الشكوك في قلب المسلم تجاه ربه جل جلاله ونبيه صلى الله عليه وسلم وكتابه الكريم؛ تارة بصور رديئة وأخرى بألفاظ خبيثة؛ حتى إن المرء ليقع في حيرة من أمره أهو مؤمن حقاً؟ أم في إيمانه شك؟ ولا بد أن يعلم الناس أنه ليس في الأمر جديد؛ فقد شكا الصحابة رضي الله عنهم وهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلها تكلفاً من مثل هذا؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال {وقد وجدتموه؟} قالوا: نعم، قال {ذاك صريح الإيمان}[14] وأحياناً تكون الوسوسة في قضية الخلق، هل للعالم خالق؟ فمن خلق الخالق؟ وهذه أيضاً يعاني منها الناس من قديم، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المخرج منها، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله}[15] والسلف الصالحون رضي الله عنهم كانوا يهوِّنون من شأن خواطر السوء هذه، ويعدُّونها أمراً عادياً لا تستحق الوقوف عندها؛ فقد سأل أبو زحيل عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنه فقال: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيءٌ من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِك}[16] فقال لي: إذا وجدت من نفسك شيئاً فقل {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[17]. رواه أبو داود وسنده جيد[18]
2ـ في الطهارة: حيث تجد بعض الناس موسوساً في الوضوء والغسل وطهارة ثيابه وفراشه؛ حتى إن بعضهم ليمكث في الحمام الساعات الطوال في الاستبراء من البول والاستنجاء من الغائط وغسل ما يظنه قد تنجس من ثيابه، ويتشكك في كل مكان يجلس فيه أو يمشي عليه، ويعيد الوضوء مرات ومرات، ويظن أن ذلك من الورع والتقى، ولربما يلجأ إلى بعض أهل العلم ليسألهم واحداً تلو الآخر، فلا يزداد بجوابهم إلا تعاسة وشقاء؛ حيث يحار في عباراتهم ويتشكك في علمهم، وقد يصادف بعض المتنطعين فلا يزيدونه إلا خبالاً، فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه}[19] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه الشيطان فأبس[20] به كما يأبس الرجل بدابته فإذا سكن له أضرط بين أليتيه ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً لا يشك فيه}[21]
3ـ في الصلاة: ترى الواحد من هؤلاء الموسوسين يعيد الصلاة مرات ومرات؛ حيث وسوس له الشيطان مشككاً إياه في صحتها وعدد ركعاتها ومدى قبولها عند الله، ولربما يظل في تكبيرة الإحرام أو فاتحة الكتاب وقتاً طويلاً يحقق حروفها ومخارجها، وقد يؤدي بهم ذلك إلى إخراجها عن وقتها، بل ربما يبلغ الحال ببعضهم والعياذ بالله إلى ترك الصلاة تماماً؛ ليريح نفسه من عنت ما يجده من الشكوك والأوهام، وتلك غاية الشيطان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول له: اذكر كذا، واذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى}[22] رواه الشيخان، ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو خير البشر ـ من محاولة الشيطان في أن يفسد عليه صلاته؛ ففي مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه؛ فقرأ فالتبست عليه القراءة؛ فلما فرغ من صلاته قال {لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أُصبُعي هاتين، الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة}[23]
4ـ في العلاقات الزوجية: كم من بيت دُمِّر؟ وكم من أسرة تشتت شملها؟ وكم من زوجين افترقا بسبب الوسوسة؟ إن أزواجاً كثيرين يخربون بيوتهم بأيديهم حين يصغون إلى وساوس الشيطان؛ فيقذف في قلوبهم الوهم تجاه أزواجهم؛ حتى إن أحد الزوجين ليغار على صاحبه غيرة ليست شرعية؛ فتجد الرجل يوسوس له الشيطان بأن الزوجة قد خرجت في غيابه بغير إذنه، أو أنها تضاحك فلاناً أو تكلم فلاناً، وكذلك الزوجة إذا رأت زوجها قد اعتنى بلباسه أو تهيأ للخروج وسوس لها الشيطان بأمور لا حقيقة لها؛ فيحصل بينهما من العتاب والمراقبة ما يزيل المودة والرحمة ويجعل محلها النفرة والضيق؛ حتى يحصل ما يريده إبليس من الفرقة والشقاق؛ في صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي رضي الله عنها أن رسول الله e خرج من عندها ليلاً؛ قالت: فغرت عليه؛ فجاء فرأى ما أصنع؛ فقال {ما لك يا عائشة أغرت؟} فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله e {أقد جاءك شيطانك؟} قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال {نعم} قلت: ومع كل إنسان؟ قال {نعم} قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال {نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم}[24]
5ـ في العلاقات بين الناس، يكون الناس على خير حال من سلامة صدورهم وطيب نفوسهم واستقامة أحوالهم، فما يزال الشيطان بهم يوسوس لهم، ويلقي الخواطر الرديئة بينهم، فيعدو بعضهم على بعض، ويسيء بعضهم إلى بعض، وهو في هذا قد يستعين بشياطين الإنس ممن يحبون أن تكون العداوة والبغضاء بدل المحبة والصفاء، فينقلون الكلام بين الناس على جهة الإفساد بينهم؛ فعن جابر t قال: سمعت النبي e يقول {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم}[25] رواه مسلم
6ـ في الصد عن فعل الخيرات؛ ما يزال الشيطان بابن آدم يصده عن سبيل الله، ويحول بينه وبين ما يقربه إلى الله، إن أراد صدقة أوعده بالفقر، وإن نوى جهاداً ذكَّره بالقتل، وإن خرج مهاجراً خوَّفه من ضياع المال والعيال، يقعد له بكل سبيل، ويصرفه عن كل طاعة، في سنن النسائي عن سبرة بن أبي فاكه t قال: سمعت رسول الله e يقول {إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؟ فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، قال رسول الله r: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله U أن يدخله الجنة، ومن قُتِلَ كان حقاً على الله U أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة}[26]
7ـ في إلقاء الظن السيئ في قلب المؤمن تجاه أخيه؛ فإذا تكلَّم أخوه بكلمة ظاهرها كباطنها تأولها الشيطان بأن أخاك لا يقصد بها إلا كذا وكذا من المعاني السيئة، وإن رأى أخاه في مكان أو على حال وسوس له الشيطان بأن فلاناً ما جاء هاهنا ولا فعل كذا إلا لأنه يريد بك سوءً، في الصحيحين عن علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ أن صفية زوج النبي e أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله e تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة. ثم قامت تنقلب. فقام النبي e معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله e، فقال لهما النبي e {على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي} فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! وكبُر عليهما؛ فقال النبي e {إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً}[27]
رابعاً: علاج الوسوسة
أيها المبتلى بالوسوسة: أسأل الله لك شفاء عاجلاً غير آجل؛ لا تستسلم للشيطان، بل اسع في علاج نفسك ودواء مرضك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله، فما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله)[28] وعلاج مرضك يتمثل في أمور مهمة لا بد من الإحاطة بها، وهي:
1ـ اعلم يقيناً أن الوسوسة لا يؤاخذك الله بها؛ لأنها بسبب خارج عن إرادتك؛ وقد قال الله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}[29] وقال {لا نكلف الله نفساً إلا وسعها}[30] وقال {لا تكلف نفس إلا وسعها[31]} وقال {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها}[32] وقال {فاتقوا الله ما استطعتم}[33] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم)[34] وهذا في الحالات العادية فكيف بالمبتلى بالوسواس، الذي لا يملك له دفعاً إلا أن يشاء الله رب العالمين. فلا يهولنك ما تجد في نفسك، واعلم بأن الوسواس ما تسلط عليك إلا لكونك مؤمناً بالله واليوم الآخر.
2ـ المحافظة على الأذكار والأدعية والصلوات والأوراد؛ فإن ذكر الله يرضي الرحمن ويطرد الشيطان، وذكر الله موجب لحصول عناية الله بك وغشيان الرحمة لك وحفوف الملائكة من حولك، وما زال الشيطان لذكر الله كارهاً {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون[35]} وإن الشيطان جاثم على صدر ابن آدم؛ فإذا غفل وسوس؛ فإذا ذكر الله خنس،[36] فاحرص ـ عافاك الله ـ على الاعتصام بحبل الله والإكثار من ذكره، يكفك شر كل ذي شر، وهو سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
3ـ المشاركة في المجالس الطيبة من حلق العلم والذكر؛ فإن هذه المجالس المباركة مجالس نور وهدى ورحمة، والملائكة قريبة منها والشياطين نافرة عنها كارهة لها، وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نرتع فيها ونلتمس الخير في أهلها (فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم)[37] ولربما تجد في أول أمرك صعوبة وعنتاً من أجل أن تحافظ عليها، لكنك ـ إن شاء الله ـ بعد حين ستعتاد الجلوس فيها، وستكون لك غذاء الروح الذي لا تستغني عنه، فاستعن بالله ولا تعجز، واعلم بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، فلا تستسلم لعدوك، بل اصبر وجاهد، ولك البشرى من ربك {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}
4ـ متابعة العلاج النافع عند الطبيب الموثوق؛ فإن بعض أنواع الوسواس تحتاج إلى نوع من العلاج العضوي، فالزم طبيباً حاذقاً فطناً ذا دين ـ وما أكثرهم والحمد لله ـ شاوره في أمرك، ولا تُخْفِ عنه شيئاً؛ فما في المرض عيب ولا حرج، واحْكِ له ما يدور في نفسك وما يجول بخاطرك، وأطعه فيما يأمرك به، ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؛ فإن بعض الناس يتنقل بين الأطباء والمفتين، ولعله يحكي لبعضهم ما يخفيه عن آخرين، فيختلف العلاج ويحار المداوي ويعجز الطبيب فلا يزداد الموسوس إلا رهقاً وعنتاً؛ وذلك بما جنت يداه.
5ـ احرص أيها المبتلى على الانهماك في الأعمال الجادة المختلفة التي تستنزف الطاقة وتستفرغ الجهد سواء في بيتك أو وظيفتك، ولا تستسلم للخلوة والانزواء فتلك غاية الشيطان؛ حتى يتسنى له أن يلقي في نفسك ما يريد، كن للناس مخالطاً وعن همومك معرضاً، وأقبل على عملك الذي كلفت به، وقد أرشدنا إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرنا بأن نتمادى في الصلاة إذا وسوس لنا الشيطان بأن الوضوء قد انتقض، وأن يقول أحدنا (آمنت بالله وحده)[38] إذا وسوس له الشيطان قائلاً: فمن خلق الله؟ وهكذا لا استسلام لعدو الله، بل جد وذكر وعمل وحالنا مع الشيطان كحال من قالوا لشياطين الإنس {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}
6ـ اعلم أيها المبتلى بالوسواس يسر الإسلام وسماحته؛ فشريعتنا ـ والحمد لله ـ شريعة سمحة هينة سهلة، قائمة على اليسر في وأحكامها، متدرجة في تشريعاتها، قليلة تكليفاتها، بعيدة عن الإعنات والمشقة؛ رافعة للحرج عن الناس؛ ففي كتاب الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}[39] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[40] {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[41] وصفة نبينا أنه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}[42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة)[43] رواه الإمام أحمد، ويوصي أصحابه وأمته بالتبشير والتيسير، فيقول (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)[44]رواه الشيخان، ويتوعد صلى الله عليه وسلم المتشددين والمتزمتين والمعسّرين فيقول (ألا هلك المتنطعون قالها ثلاثاً)[45] رواه مسلم، ولما أفتى بعض الصحابة فتوى خاطئة فيها تشديد وتعسير، وأدت إلى موت إنسان ما كان له أن يغتسل فأمروه بالاغتسال، قال عليه الصلاة والسلام وهو في قمة غضبه (قتلوه قتلهم الله؛ ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال)[46] رواه أبو داود، ولم يقر صلى الله عليه وسلم أحداً على أن يشدد على نفسه بل كان نكيره سريعاً على أولئك المشددين، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم؟ قال (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه)[47]رواه البخاري، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادَى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال (إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه)[48] وأمره أن يركب. رواه البخاري.
وهكذا كان الصحابة الكرام متابعين لنبيهم صلى الله عليه وسلم في هذا التوجيه الكريم؛ فها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه يرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ذات السلاسل يقول: فاحتلمت في ليلة باردة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[49] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً[50]. رواه أبو داود
7ـ العناية بطلب العلم الشرعي سبيل أكيد للنجاة من الوسواس، فحين تطلب العلم سترى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ وكيف كان يصلي؟ وكيف كان يعبد ربه؟ وكيف كان يتعامل مع الناس، وستعلم يقيناً أن هديه صلوات الله وسلامه عليه أبعد ما يكون عن التنطع والتكلف، بل دينه دين اليسر، وكان عليه السلام حريصاً على التيسير (فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)[51]
8ـ على المبتلى بالوسوسة أن يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ليعيذه من وساوس الشيطان؛ فإن الله تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وبين أصابعه قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فإذا لجأ المسلم إلى ربه خاشعاً متذللاً مخبتاً متضرعاً، يسأله أن يقيه من نزغات الشيطان، بكل إخلاص وصدق، وافتقار إلى الله تعالى، وتحيَّن أوقات الإجابة وأحوالها التي بيّنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالثلث الأخير من الليل، وحال الصيام، وحال خشوع القلب، وعند السجود، وقبل السلام، وفي الساعة الأخيرة من الجمعة، فإنه لحريّ أن يظفر بالإجابة، وعليه أن يعنى بالأدعية الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ولا يشغل نفسه بما ألفه الناس وكتبوه من أدعية محدثة فخير الدعاء ما كان في القرآن ثم ما ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى {رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ[52]} والاستعاذة الواردة في قوله سبحانه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}[53] وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام لصلاة الليل (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من نفثه ونفخه وهمزه)[54] وربنا سبحانه وتعالى تعهد الله بأن يحمي من التجأ إليه واستعاذ به من كيد الشيطان ومكره. وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن وسوراً نتلوها وأدعية واستعاذات نقرؤها في مناسبات مختلفة لنتحصن بها من الشياطين؛ فمن تحصن بها نجا، ورد الله كيد الشيطان في نحره؛ وأعظم ذلك قراءة سورة البقرة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة)[55] رواه البخاري. وفي صحيح البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما أمسك الشيطان الذي كان يحاول السرقة من بيت الصدقة فعرض عليه الشيطان مقابل إطلاق سراحه أن يعلمه كلمات ينفعه الله بها، قال (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما إنه صدقك وهو كذوب)[56]
وبعد: فهذه كلمات أرجو أن تكون نافعة لمن قالها وكتبها ومن نظر فيها، ولا يستقيم لعبد أمر حتى يخلص لله ظاهراً وباطناً، فاستعن بالله ـ أخي المبتلى ـ ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، واعلم بأنك مأجور على حالك كله؛ كما قال رسول الله e {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}[57] وتذكر قول ربنا U في القرآن )لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم([58] أسأل الله أن يعيذني وإياك من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، وأن يختم لنا بالحسنى، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،،،
[1] سورة فاطر
[2] سورة مريم
[3] سورة الزخرف
[4] سورة الأنعام
[5] سورة الأنعام
[6] سورة الناس
[20] أبست به تأبيساً أي ذللته وحقرته وروعته