الغلو .. مظاهره وعلاجه
الغلو (مظاهره وأسبابه وعلاجه)
ورقة مقدمة لندوة مجمع الفقه الإسلامي
كتبها: عبد الحي يوسف
رئيس دائرة الفتوى العامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أولاً: تعريف الغلو
في اللغة: الارتفاع ومجاوزة القدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه
في الشرع: قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق..) وقال سبحانه (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) وفي الاصطلاح عرَّفه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد.
ثانياً: أنواع الغلو
1ـ غلو اعتقادي، كالغلو في الولاء والبراء، كالغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، والغلو في التكفير كالتكفير بالمعاصي
2ـ غلو عملي، كمن أوجب على نفس صيام الدهر أو حرم على نفسه أكل اللحم؛ في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم {مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه}
ثالثاً: لمحة عن تاريخ الغلو
قد وقع الغلو في الدين بنوعيه في هذه الأمة من قديم، ويدل على ذلك أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هذه الظاهرة، وقد يدل على ذلك حديثان:
1ـ روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قصة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وإعطائه صناديد نجد أكثر من غيرهم، وفيه: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم {إن من ضئضيء هذا قوماً يقروؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان} رواه الشيخان
2ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني} رواه البخاري
هذا، وإن الغلو الاعتقادي ـ في تاريخ المسلمين ـ لهو أعظم شراً وأكبر خطراً من الغلو العملي، إذ كان بمثابة البذرة الخبيثة التي أثمرت شراً مستطيرا وفتناً عظيمة؛ حين أوغر الخارجون صدور الناس على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه فامتدت إليه أيد آثمة فقتلته ففتح باب الفتنة على مصاريعه حين اختلف الصحابة رضوان الله عليهم بين موجب للقصاص فوراً وراء لتأجيله حتى تقوى شوكة الدولة؛ فكانت موقعة الجمل، ثم موقعة صفين وظهور أكبر فرقتين غاليتين في تاريخ المسلمين وهما الروافض والخوارج
رابعاً: مظاهر الغلو في العصر الحديث
- الغلو في التعصب للجماعة؛ حين يرونها جماعة المسلمين دون سواها؛ فمن كان معهم فيها فهو المسلم الذي يوالى، ومن لم يكن معهم فخير أحواله أن يبذلوا له القسط الذي يكون لأهل الكتاب، وهذا في الناس كثير
- الغلو في قائد الجماعة؛ فعن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فيك مثل من عيسى، أبغضته اليهود حتّى بهتوا أمّه، وأحبّته النّصارى حتّى أنزلوه بالمنزلة الّتي ليس به» وقال رضي اللّه عنه: «يهلك فيّ رجلان: محبّ مفرط يقرّظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني».
- تكفير الخارج عن الجماعة؛ باعتبار الأحاديث الواردة في جماعة المسلمين والتحذير من مفارقتها، وأن من فارقها ثم مات فميتته جاهلية؛ فيسقطونها على الجماعة الخاصة
- تكفير المسلم بالمعصية
- تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله بإطلاق
- تكفير الأتباع المحكومين بغير ما أنزل الله بإطلاق
- تكفير المعيَّن دون اعتبار للضوابط الشرعية
- تحريم بعض الطيبات؛ فعن سعد بن أبي وقّاص رضي اللّه عنه أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته» وعن أبي ثعلبة الخشنيّ رضي اللّه عنه أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء عن غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أنّ نفراً من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سألوا أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن عمله في السّرّ فقال بعضهم: لا أتزوّج النّساء. وقال بعضهم: لا آكل اللّحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد للّه وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا. ولكنّي أصلّي وأنام. وأصوم وأفطر. وأتزوّج النّساء. فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».
- سوء الظن بالمسلمين حكاماً ومحكومين؛ فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما أنّه قال: أقبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يعطي النّاس، قال: يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أجل، فكيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت، قال: فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: «ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟». فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول اللّه ألا نقتله؟ قال: «لا. دعوه، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين، حتّى يخرجوا منه، كما يخرج السّهم من الرّميّة، ينظر في النّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القدح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدّم».
- الخروج على الحاكم المسلم
- الخروج على الحاكم الجائر أو الظالم
- الاغتيالات للمسلمين أو المعصومين كالمعاهدين ونحوهم
- تحريم الصلاة في المساجد بدعوى أنها مساجد ضرار لم تؤسس على التقوى
- الغلو باعتزال المجتمعات ومفاصلتها
- الغلو بتحريم العمل في الوظائف الحكومية
خامساً: الأسباب الحاملة على الغلو
1ـ الجهل، ويشمل ذلك الجهل بالقرآن الكريم؛ قال تعالى {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} والقرآن الكريم هو عمدة الملة وينبوع الحكمة وكلية الشريعة، ويجب على المسلم تدبره وفهمه حتى يصح اعتقاده وعلمه وعمله، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الجهل بالقرآن من أولى الأسباب التي تؤدي إلى الغلو حيث قال في الخوارج (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) قال النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم حظ منه إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب.أ.هـ وقد وجد من جماعات الغلو المعاصرة من يحرم الانتساب إلى المدارس والجامعات ويدعو إلى الأمية استدلالاً بقوله تعالى {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} ثم الجهل بالسنة كاستدلالهم بالأحاديث الواردة في لزوم الجماعة على لزوم جماعتهم الخاصة وحرمة مفارقتها وتكفير المارق من مثل قوله صلى الله عليه وسلم (من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية) ثم الجهل بمنهج السلف رضي الله عنهم والجهل بمقاصد الشريعة، وهي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها في تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فتجدهم جاهلين بيسر الشريعة وسماحتها، غير ضابطين لميزان المصالح والمفاسد، ومثال ذلك الخروج على الحاكم يجهلون وجوب تحقق المصلحة من ذلك الخروج، وقد علم بالاستقراء لوقائع التاريخ أن الخروج على أئمة الجور مفاسده أكثر من مصالحه، يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته.أ.هـ وكذلك الجهل بمراتب الأحكام ومراتب الناس
2ـ الإعراض عن العلماء فقهاء الإسلام بدعوى أنهم علماء سلطان أو أنهم قاعدون عن الجهاد والجهر بكلمة الحق؛ فلا يأخذون عنهم ولا يعتدون بأقوالهم، بل يكتفون بالأخذ عن الكتب فيفوتهم الفهم السليم وتلقي الأدب الجم الذي طبع عليه أهل العلم، ثم وقعوا في التحريف والـتأويل للنصوص بغير أثارة من هدى ولا جمع للأدلة في الموضوع الواحد، وفي الحديث عن أبي هريرة؛ وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».
3ـ الإغراق في الاهتمام بأحاديث الفتن وتأويلها باعتبار الواقع الذي يعيشونه؛ حتى أدى ذلك ببعضهم إلى محاولة إخراج المهدي المنتظر من بين صفوف جماعتهم
4ـ الاستعجال حين يرون اشتداد البلاء بالمسلمين مع ظهور المنكرات وشيوع الباطل وعدم طاعة الناهين عن المنكر وعدم فقه نصوص الجهاد والاستشهاد والتعصب وعدم الاهتمام بظروف الناس وأعذارهم