ما معنى تجديد الدين؟
السلام عليكم ورحمة الله. ما معنى الحديث عن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يبعث كل مائة عام رجل يجدد للناس دينهم بالتفصيل الممل؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد
فالحديث رواه أبو داود والحاكم في المستدرك وابن عدي في الكامل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»
والبعث المذكور أنه يكون على رأس المائة هو الإثارة والإرسال، فيكون المعنى – كما قال المناوي في فيض القدير – (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر الأحكام)
أما المقصود بـ (الرأس) في قوله صلى الله عليه وسلم: «على رأس كل مائة سنة»، فقد قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في آخرها
والتجديد يعني جعل الشيء جديداً، فتجديد الدين يعني إعادة نضارته ورونقه وبهائه وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، ونشره بين الناس.
وهذا اللفظ (التجديد) يؤكد أن التجديد الموعود لابد أن يكون على حين فترة من العلماء، واضمحلال لشأن أهل الحق وحملة السنة، فيبعث الله هؤلاء المجدّدين ليعيدوا للناس الثقة بدينهم، ويعلموهم ما جهلوا من شأنه. فليس معنى الحديث أن التجديد إضافة شيء جديدٍ إلى الدين، كما أنه لا يعني بحالٍ من الأحوال اقتطاع شيء منه ونبذه. فهذا وذاك ليسا في الحقيقة تجديداً، وإنما هو مسخٌ وتجريد.
فأما لفظ «مَنْ» فإنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة – من حيث اللفظ -، ومن حيث المراد بها في الحديث قال بعضهم: المقصود بها فردٌ، وحملوا «مَنْ» في هذه الرواية على لفظ (رجل)، أو (عالم) كما جاء في بعض الروايات، وقد اختار هذا الرأي عدد من العلماء، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال: وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث والجمهور. ونسبه غيره إلى (العلماء). واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي، والمناوي، والعظيم آبادي، وغيرهم.
ومما يدل على أن المراد العموم وليس شخصاً بعينه؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحديث: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العلم)
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض) ونقل ابن حجر كلام النووي ثم زاد في آخره: (ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله.ا.ه
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد سياق الخلاف في المجدّد: أفرد أم جماعة؟: (ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد؛ لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك العصر، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً، ثم في حق الشافعي. أما من جاء بعد ذلك، فلا يعدم من يشاركه في ذلك).
وقال: (لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط؛ بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه. وأما من جاء بعده؛ فالشافعي – وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة – إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل. فلعل هذا كل من كان متصفاً بشيءٍ من ذلك عند رأس المائة هو المراد؛ سواء تعدَّد أم لا)
وقال الإمام الذهبي: (من – هنا – للجمع، لا للمفرد، فنقول مثلاً: على رأس الثلاثمائة: ابن سُريجٍ في الفقه والأشعري في الأصول، والنسائي في الحديث… الخ)
وهذا المجدد أو أولئك المجددون من صفاتهم إدراك واع لحال هذه الأمة وما تعانيه، ثم إرادة مصممة على التغيير، ثم إمضاء هذه الإرادة وتحقيق عملي لها.
ومن تتبع مسيرة هؤلاء المجددين – جزاهم الله خيرا – يجد بعضهم قد برع في تجديد الدين في أبواب الحكم والجهاد كعمر بن عبد العزيز، وبعضهم في نشر العلم وتبويبه وترتيبه كالشافعي، وبعضهم قد برع في رد الأمة إلى الجادة على حين ضياع وتيه كما فعل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وبعضهم في رد الناس إلى السنة على حين غربة منها كما فعل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وهكذا جزاهم الله جميعاً خير الجزاء عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.