الحبة السوداء
فضيلة الشيخ الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رجل لديه لبس في أحاديث التحصين والاستشفاء، ففي جانب التحصين يقول إنه يأتي بالأذكار والتحصينات المختلفة ثم يحصل له مكروه، ووجد نصراني يتحدى المسلمين أن يقولوا (أعوذ بكلمات الله التامات من شر من خلق) ويعطيهم سم ولا يؤثر فيهم
وفي جانب الاستشفاء يقول هناك أحاديث كثيرة تذكر بعض المأكولات أو المشروبات أنها شفاء من كل داء مثل الحبة السوداء وحليب البقر والحجامة وغيرها، فهل تعني أنها شفاء من كل مرض بحيث يمكن الاعتماد عليها والاستغناء عما سواها من أمور العلاج المختلفة؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد
فإن الله تعالى يقول عن العسل {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحبة السوداء (في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام) قال ابن شهاب: والسام الموت. متفق عليه
وهذه النصوص لا تدل على أن تلك المأكولات والمشروبات فيها شفاء من كل داء أو أنها شفاء لكل أحد، بل هو من باب العموم الذي أريد به الخصوص؛ فليست هي لكل علة ولا لكل إنسان؛ بل إخبار أنها تشفي كما يشفي غيرها من الأدوية في بعض دون بعض، وعلى حال دون حال. قال ابن عطية رحمه الله تعالى في (المحرر الوجيز): ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء كما كثر الشفاء به وصار خليطًا ومعينًا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل، حتى إنه كان يدهن به الدمل والقرحة ويقرأ: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم. اهـ.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (في الحبة السوداء شفاء من كل داء) قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد): وقوله: (شفاء من كل داء) مثل قوله تعالى: {تدمر كل شيء بأمر ربها} أي: كل شيء يقبل التدمير ونظائره، وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها. اهـ.
وجاء في فتح الباري: قيل إن قوله (كل داء) تقديره يقبل العلاج بها، فإنها تنفع من الأمراض الباردة، وأما الحارة فلا، وقال الخطابي: قوله: (من كل داء) هو من العام الذي يراد به الخاص؛ لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة، وقال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل فيه شفاء للناس الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى، وقال غيره: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد فيكون معنى قوله (شفاء من كل داء) أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه والتخصيص بالحيثية كثير شائع. اهـ.