التوكيل في الحج
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فلا مانع من أن توكل من يحج عن شقيقتك التي توفاها الله قبل أن تحج حجة الإسلام، وذلك لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم من جواز الاستنابة في الحج عن الميت وكذلك المريض الذي لا يستطيع بلوغ بيت الله الحرام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما “أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال فحجي عنه” متفق عليه، وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت إن أبي كبير وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ولا يستطيع أداءها فيجزي عنه أن أؤديها عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم” رواه أحمد والترمذي وصححه، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْر رضي الله عنهماِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِي ذَلِكَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَجُّ مِنْ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْخَثْعَمِيَّةِ كَمَا اخْتَصَّ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بِجَوَازِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِ.ا.هــــــ
ولا يختص ذلك بالابن بل يجوز منه ومن غيره، قال الحافظ رحمه الله في الفتح: وَقَدْ ادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ جُمُودٌ.ا.هـــــــ
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَأَى مَالِكٌ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فَيُرَجَّحُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ فِي تَرَجُّحِهِ مِنْ جِهَةِ تَوَاتُرِهِ انْتَهَى. وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: هُوَ عُمُومٌ مَخْصُوصٌ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ.ا.هــــــــ
هذا فيما يختص بالحج عن المريض، وأما الميت فقد ثبت في صحيح البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:. نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكَنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اُقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ. ولَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الروايتين؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً وَأَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً وَلَكِنَّ النَّذْرَ وَقَعَ مِنْ الْأُخْتِ وَالْأُمِّ، فَسَأَلَ الْأَخُ عَنْ نَذْرِ أُخْتِهِ وَالْبِنْتِ عَنْ نَذْرِ الْأُمِّ.
قال ابن تيمية الجد رحمه الله تعالى في المنتقى: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَوَارِثٌ هُوَ أَمْ لَا، وَشَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ.ا.هــــــ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
وفي صحيح مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ «امْرَأَةً قَالَتْ: إنَّ أُمِّي وَفِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صَوْمِي عَنْهَا، قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا»
وفي قول النبي صلى الله عليه وسـلم (أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُجَهِّزَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ دُيُونِهِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، ذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَيَلْحَقُ بِالْحَجِّ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ سَوَاءٌ قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي. . . إلَخْ)
وقد استدل الجمهور بالعقل كذلك على جواز الاستنابة في الحج لمن قام به عذر؛ قال الكمال بن الهمام رحمه الله تعالى: وكان مقتضى القياس أن لا تجري النيابة في الحج، لتضمنه المشقتين البدنية والمالية، والأولى لم تقم بالآمر، لكنه تعالى رخص في إسقاطه بتحمل المشقة الأخرى، أعني إخراج المال عند العجز المستمر إلى الموت، رحمة وفضلا، وذلك بأن يدفع نفقة الحج إلى من يحج عنه، بخلاف حال القدرة فإنه لم يعذره لأن تركه ليس إلا لمجرد إيثار راحة نفسه على أمر ربه، وهو بهذا يستحق العقاب، لا التخفيف في طريق الإسقاط، وإنما شرط دوامه (أي العذر) إلى الموت لأن الحج فرض العمر.ا.هــــــــ فتح القدير 2/310
وذهب مالك على المعتمد في مذهبه إلى أن الحج لا يقبل النيابة لا عن الحي ولا عن الميت، معذورا أو غير معذور. وقالوا: إن الأفضل أن يتطوع عنه وليه بغير الحج، كأن يهدي أو يتصدق عنه، أو يدعو له، أو يعتق. مواهب الجليل 2/543، وحاشية الدسوقي 1/18
وشرط الاستنابة في الحج أن يكون النائب عن غيره قد حج عن نفسه؛ لما رواه أبو داود وابن ماجه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ»
وأما توكيلك من يحج عنك فلا يجوز؛ لأن شرط النيابة في الحج أن يكون المنيب عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله، أو ميتاً، وأما أنت فسل الله تعالى أن يعينك على الحج في عام آتٍ. والله تعالى أعلم.