تخصيص مكان معين في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسـلم عن أن أن يتخذ الرجل مكاناً معيناً للصلاة لا يتجاوزه، بل عليه أن يصلي حيثما تيسر له لأن ذلك أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص؛ ففي سنن أبي داود وابن ماجه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ، قَالَ: “نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَعَنْ فِرْشَةِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ” قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: يُقَالُ: أَوْطَنَ الْأَرْضَ وَوَطَّنَهَا وَاسْتَوْطَنَهَا إِذَا اتَّخَذَهَا وَطَنًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي النِّهَايَةِ، عَنِ الْحُلْوَانِيِّ: أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ أَصْحَابِنَا، يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانًا مُعَيَّنًا يُصَلِّي فِيهِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ، وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ، وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ اهـ، فَكَيْفَ مَنِ اتَّخَذَهُ لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ؟ اهـ. وقال الخطابي في معالم السنن: وأما إيطان البعير ففيه وجهان أحدهما أن يألف الرجل مكانا معلوماً من المسجد لا يصلي إلاّ فيه كالبعير لا يأوي من عطنه إلاّ إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا لا يبرك إلاّ فيه. والوجه الآخر أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود بروك البعير على المكان الذي أوطنه وأن لا يهوي في سجوده فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل.ا.هــــ قال العيني في شرحه لسنن أبي داود: ولا دلالة في الحديث على الوجه الثاني فافهم.ا.هــــ وقال السيوطي في شرحه لسنن ابن ماجه: لِأَن التوطين يَسْتَدْعِي التَّمَلُّك وَلَيْسَ الْمَسْجِد مَحل التَّمَلُّك بِخِلَاف مَا لَو تحرى الْمَكَان المتبرك بِلَا إِرَادَة التوطن فَإِن بَينهمَا بونا بَعيدا أَو جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات ان الصَّحَابَة قَالُوا: يَا رَسُول الله الا نَبْنِي لَك بِنَاء فِي منى؟ فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَا منى مناخ من سبق” وَهَكَذَا فِي جَمِيع مجَالِس الْخَيْر من الذّكر والوعظ، وَكَثِيرًا مَا نشاهد فِي زَمَاننَا من الجهلة الْعَوام أنهم يُقَاتلُون على الْمَكَان الْمَخْصُوص فِي الْجَامِع ومجالس الذّكر والوعظ، وَأعظم من ذَلِك أنهم يأتونه مُتَأَخِّرًا ويقدمون خدمهم لحراسة الْمَكَان؛ فَمَا أجهله!! أما لَو قصدُوا أَو سبقوا إلى الْمَكَان المتبرك بِلَا جِدَال وَلَا نزاع فَمَا أحسن هَذَا؛ قَالَ الله تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَو يعلمُونَ مَا فِي الصَّفّ الأول لاستهموا”.ا.هـــــــــــــــــــــــــــ
وأما حجز المكان في المسجد بواسطة سجادة ونحوها؛ فقد منع من ذلك المالكية رحمهم الله تعالى، قال الشيخ عليش رحمه الله تعالى في منح الجليل: ونص في المدخل على أنه لا يستحق السابق إلى المسجد بإرسال سجادته إليه وأنه غاصب لذلك المحل. قال… فإن بعث سجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت فيه وتأخر إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي يتخطى رقابهم فيقع في محذورات جملة منها: غصبه ذلك الموضع الذي فرشت به السجادة لأنه ليس له حجره، وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته، ومن سبق فهو أولى، ولم أعلم أحداً قال إن السبق للسجادات، وإنما هو لبني آدم، فوقع في الغصب لمنعه السابق إلى ذلك المكان، ومنها تخطي رقاب المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم. رواه الإمام أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام: من تخطى رقبة أخيه جعله الله جسراً. رواه الإمام أحمد، وظاهر كلام القرطبي في تفسيره في سورة المجادلة أنه يستحق السبق بذلك، فإنه قال: إذا أمر إنسان أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكاناً يقعد فيه، فإذا جاء الآمر يقوم له منه المأمور ويقعد الآمر فيه فلا يكره، لما روي أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة فيجلس فيه، فإذا جاء قام له منه. ثم قال: وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد. انتهى.ونقله ابن فرحون في تاريخ المدينة محتجاً به.. وتخريجه إرسال سجادة على إرسال الغلام غير ظاهر، فالصواب ما تقدم عن صاحب المدخل من أن السبق بالفرش لا يعتبر.
وقال أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئاً، لا سجادة يفرشها قبل حضوره ولا بساطاً ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء. انتهى.
وقال رحمه الله في موطن آخر: فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم علم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضي ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي صلى الله عليه وسـلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح، وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد، فهو أحق بمكانه، فإن النبي صلى الله عليه وسـلم سن ذلك، قال: “إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه، فهو أحق به”.
وقال رحمه الله في موطن آخر: ليس لأحد أن يفرش شيئاً ويختص به مع غيبته، ويمنع به غيره، هذا غصب لتلك البعقة، ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة، والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه، وأما من يتقدم بسجادة فهو ظالم إن لم ينته عنه، ويجب رفع تلك السجاجيد، ويمكن الناس من مكانها، هذا مع أن أصل الفرش بدعة، لا سيما في مسجد النبي صلى الله عليه وسـلم، ولما قدم عبد الرحمن بن مهدي من العراق وفرش في المسجد أمر مالك بن أنس بحبسه تعزيراً له حتى روجع في ذلك، فذكر أن فعل هذا في مثل هذا المسجد بدعة يؤدب صاحبها. وعلى الناس الإنكار على من يفعل ذلك والمنع منه، لا سيما ولاة الأمر الذين لهم ولاية على المسجد، فإنه يتعين عليهم رفع هذه السجاجيد، ولو عوقب أصحابه بالصدقة بها لكان هذا مما يسوغ في الاجتهاد. انتهى