تعدد الجمعة في الحي الواحد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فالأصل الذي دلت عليه نصوص الشريعة وعمل السلف رحمهم الله تعالى أن تقام جمعة واحدة فى مكان واحد ، لسماع الخطبة الموحَّدة من الإمام؛ حيث كان العمل على ذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فى المدينة، وذلك حين كان المسجد النبوي يسع المصلين وكان الخليفة الراشد هو الذي يخطب فيهم ويؤمهم، وما أقيمت جمعة أخرى في مصر من الأمصار إلا حين دعت لذلك حاجة من ضيق المكان أو كثرة الناس ونحو ذلك من الأعذار.
وذلك لأن المقصود من الجمعة هو اجتماع المسلمين في مكان واحد؛ يستمعون إلى خطبة الإمام التي فيها تذكير الناسي وهدية الضال وإرشاد الغافل، ويتعارفون فيما بينهم وهم يشعرون أنهم جسد واحد تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، وكلما كان عدد هؤلاء المجتمعين أكثر كان أثره فى إدراك هذه المقاصد أجل وأعظم، فاذا تعددت الاجتماعات بتعدد المساجد لغير ضرورة لا يشعر المجتمعون بفائدة الاجتماع كشعورهم فى الأول ولا تتأثر نفوسهم بهذه المعانى كتأثرها عند كثرة المجتمعين، ومن هنا نص علماء المذاهب رحمهم الله تعالى على عدم جواز تعدد الجمعة في البلد الواحد إلا لعذر
فقال الشافعية – كما في حاشية البيجرمي على شرح المنهاج: إذا تعددت الأمكنة التى تصلح فيها الجمعة لا يخلو – إما أن يكون تعدد هذه الأماكن لحاجة أو ضرورة كأن يضيق المسجد الواحد عن أهل البلدة، وإما أن يكون تعدد هذه الأماكن لغير حاجة أو ضرورة – ففى الحالة الأولى وهى ما إذا كان التعدد للحاجة أو الضرورة فإن الجمعة تصلى فى جميعها ويندب أن يصلى الناس الظهر بعد الجمعة – أما فى الحالة الثانية وهى ما إذا كان التعدد لغير حاجة أو ضرورة فإن الجمعة لمن سبق بالصلاة بشرط أن يثبت يقينا أن الجماعة التى صلت فى هذا المكان سبقت غيرها بتكبيرة الإحرام، أما إذا لم يثبت ذلك بأن يثبت بأنهم صلوا فى جميع المساجد فى وقت واحد بأن كبروا تكبيرة الإحرام معا فى لحظة واحدة أو وقع الشك فى أنهم كبروا معا أو فى سبق أحدهم بالتكبير فإن الصلاة تبطل فى جميع المساجد، ويجب عليهم أن يجتمعوا جميعا فى مكان واحد ويعيدوها جمعة إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن صلوها ظهرا .
وذهب المالكية – كما في الشرح الكبير للعلامة الدردير – إلى أن الجمعة إنما تصح فى المسجد العتيق وهو ما أقيمت فيه الجمعة أولاً ولو تأخر أداؤها فيه عن أدائها فى غيره ولو كان بناؤه متأخرا، وتصح فى الجديد فى أحوال منها:
- أن يهجر العتيق كلية وينقلها الناس إلى الجديد
- أن يحكم حاكم بصحتها فى الجديد
- أن يكون القديم ضيقا ولا يمكن توسعته فيحتاج الناس إلى الجديد
- أن تكون هناك عداوة بين طائفتين بالبلد الواحد ويخشى من اجتماعهما فى مسجد واحد حدوث ضرر لإحداهما من الأخرى فانه يجوز لأيهما اتخاذ مسجد فى ناحية يصلون فيه الجمعة ما دامت العداوة قائمة – وذهب يحيى بن عمر إلى جواز تعداد الجمعة إذا كان البلد كبيرا
وقال تقي الدين السبكي في فتاويه: والمقصود بالجمعة اجتماع المؤمنين كلهم، وموعظتهم، وأكمل وجوه ذلك أن يكون في مكان واحد لتجتمع كلمتهم، وتحصل الألفة بينهم، وقال: وفي الجمعة ثلاثة مقاصد: أحدها: ظهور الشعار، والثاني: الموعظة، والثالث: تأليف بعض المؤمنين ببعض لتراحمهم وتوادهم، ولما كانت هذه المقاصد الثلاثة من أحسن المقاصد، واستمر العمل عليها، وكان الاقتصار على جمعة واحدة أدعى إليها استمر العمل عليه، وعلم ذلك من دين الإسلام بالضرورة، وإن لم يأت في ذلك نص من الشارع بأمر ولا نهي، ولكن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. وقد أتانا فعله صلى الله عليه وسلم، وسنته، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، ومن محاسن الإسلام اجتماع المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس، ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة، ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين لتحصل الألفة بينهم. ثم قال: وانقرض عصر الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، وجاء التابعون فلم أعلم أحداً منهم تكلم في هذه المسِألة أيضاً، ولا قال بجواز جمعتين في بلد إلا رواية عبد الرازق عن ابن جريج قال: قلت: لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم قال ابن جريج: وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر هذا لفظ عبد الرزاق في مصنفه، ثم قال الإمام تقي الدين السبكي: فالرجوع إلى قول سائر الناس مع الصحابة جميعهم أولى، ويصير مذهب عطاء في ذلك من المذاهب الشاذة التي لم يعلم بها الناس
وعليه فإن الأصل هو الصلاة في المسجد العتيق ما دام يسع الناس؛ اللهم إلا إذا حكم ولي الأمر بصحة الصلاة في المسجد الآخر، أو رؤي أن مفسدة عظيمة تحصل باجتماع الناس في المسجد العتيق نسبة لاستحكام العداوة بين الطائفتين المختلفتين، والله تعالى أعلم.