خطب الجمعة

خطبة الجمعة 2/8/2013 – الأدب مع الله

خطبة يوم الجمعة 24/9/1434 الموافق 2/8/2013

1- فإن بني إسرائيل قد عبدوا العجل حين ذهب نبيهم عليه السلام لميقات ربه، ومع ذلك تاب الله عليهم وعفا عنهم؛ فما اتعظوا بل عادوا لغيهم حين اختار نبيهم عليه السلام سبعين رجلاً من أجل أن يذهبوا معه إلى الطور؛ فقالوا {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وقد عاب الله تعالى على بني إسرائيل في القرآن سوء أدبهم معه وقلة حيائهم؛ حين قالوا {يد الله مغلولة} وحين قالوا {إن الله فقير ونحن أغنياء} فأسعد الناس بالله أعظمهم أدباً وأصدقهم حياء وأكثرهم تحفظا

2- قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: علم الأدب هو علم إصلاح اللّسان والخطاب وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه عن الخطأ والخلل وهو شعبة من الأدب العامّ. وعلى هذا فالأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وبتعبير آخر: الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف مع المستحسنات

3- الأدب مع المولى تبارك وتعالى ثلاثة أنواع:

أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.

الثّاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.

الثّالث: صيانة إرادته أن تتعلّق بما يمقتك عليه.

فالأدب مع اللّه حسن الصّحبة معه، بإيقاع الحركات الظّاهرة والباطنة على مقتضى التّعظيم والإجلال والحياء.

4- وأعظم الناس أدباً مع الله تعالى هو رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فحين أراه الله ما أراه ليلة المعراج كان حاله تمام الأدب {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} فكان هذا وصفاً لأدبه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانباً، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب، والإخلال به: أن يلتفت النّاظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلّع أمام المنظور. فالالتفات زيغ، والتّطلّع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة. فكمال إقبال النّاظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عن يمنة ولا يسرة. ولا يتجاوزه.

وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللّائقة بأكمل البشر صلّى اللّه عليه وسلّم: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حقّ مشهود بالبصر، فتواطأ في حقّه مشهد البصر والبصيرة. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفر «ما كذّب الفؤاد» – بتشديد الذّال- أي لم يكذّب الفؤاد البصر، بل صدّقة وواطأه لصحّة الفؤاد والبصر، أو استقامة البصيرة والبصر.

وهذا غاية الكمال والأدب مع اللّه جلّ وعلا الّذي وصف رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله عزّ وجلّ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

أدب الأنبياء والرسل مع اللّه عزّ وجلّ

1- قال المسيح عليه السّلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ولم يقل: «لم أقله». وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب. ثمّ أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسرّه، فقال {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي} ثمّ برّأ نفسه عن علمه بغيب ربّه وما يختصّ به سبحانه، فقال {وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} ثمّ أثنى على ربّه، ووصفه بتفرّده بعلم الغيوب كلّها، فقال {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ثمّ نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربّه به وهو محض التّوحيد- فقال: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ثمّ أخبر عن شهادته عليهم، مدّة مقامه فيهم. وأنّه لا اطّلاع له عليهم وأنّ اللّه- عزّ وجلّ- وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطّلاع عليهم. فقال {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ثمّ وصفه بأنّ شهادته سبحانه فوق كلّ شهادة وأعم، فقال: {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ثمّ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} وهذا من أبلغ الأدب مع اللّه في مثل هذا المقام. أي: شأن السّيّد رحمة عبيده والإحسان إليهم. وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيداً لغيرك. فإذا عذّبتهم مع كونهم عبيدك- فلولا أنّهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيّدهم، وأعصاهم له لم تعذّبهم؛ لأنّ قربة العبوديّة تستدعي إحسان السّيّد إلى عبده ورحمته. فلماذا يعذّب أرحم الرّاحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؟ لولا فرط عتوّهم، وإبائهم، عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.

وقد تقدّم قول {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرّهم وعلانيتهم، فإذا عذّبتهم: عذّبتهم على علم منك بما تعذّبهم عليه. فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه. وهذا هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب. ثمّ قرأ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: «الغفور الرّحيم» وهذا من أبلغ الأدب مع اللّه تعالى. فإنّه قال في وقت غضب الرّبّ عليهم، والأمر بهم إلى النّار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم. فلو قال «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعر باستعطافه ربّه على أعدائه الّذي قد اشتدّ غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرّبّ في غضبه على من غضب الرّبّ عليهم. فعدل عن ذكر الصّفتين اللّتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزّة والحكمة، المتضمّنتين لكمال القدرة وكمال العلم. والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون من كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليهم بمقدار جرائمهم. وهذا لأنّ العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله مقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم. وكان ذكر هاتين الصّفتين في هذا المقام عين الأدب فى الخطاب.

وفي بعض الآثار «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللّهمّ ربّنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» ولهذا يقترن كلّ من هاتين الصّفتين بالأخرى، كقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.

2- وكذلك قول إبراهيم الخليل صلّى اللّه عليه وسلّم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ولم يقل «وإذا أمرضني» حفظا للأدب مع اللّه.

3- وكذلك قول الخضر عليه السّلام في السّفينة {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} ولم يقل «فأراد ربّك أن أعيبها» وقال في الغلامين {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما}.

4- وكذلك قول مؤمني الجنّ {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ولم يقولوا «أراده ربّهم» ثمّ قالوا {أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}

4- وألطف من هذا قول موسى عليه السّلام: {رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يقل «أطعمني».

5- وقول آدم عليه السّلام {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} ولم يقل «ربّ قدّرت عليّ وقضيت عليّ».

6- وقول أيّوب عليه السّلام {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ولم يقل «فعافني وأشفني».

7- وقول يوسف لأبيه وإخوته {هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}. ولم يقل «أخرجني من الجبّ» حفظاً للأدب مع إخوته، وتفتّيا عليهم أن لا يخجلهم بما جرى فى الجبّ. وقال: {وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ولم يقل «رفع عنكم جهد الجوع والحاجة» أدباً معهم. وأضاف ما جرى إلى السّبب، ولم يضفه إلى المباشر الّذي هو أقرب إليه منه، فقال {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فأعطى الفتوّة والكرم والأدب حقّه. ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلّا للرّسل والأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم.

من أنواع الأدب

1- أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الرّجل «أن يستر عورته، وإن كان خاليا لا يراه أحد. أدباً مع اللّه، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدّة الحياء منه، ومعرفة وقاره.

وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهراً وباطنا، فما أساء أحد الأدب في الظّاهر إلّا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب باطناً إلّا عوقب باطنا.

وقال عبد اللّه بن المبارك- رحمه اللّه-: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السّنن. ومن تهاون بالسّنن عوقب بحرمان الفرائض. ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة. وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل. والمقصود أنّ الأدب مع اللّه تعالى: هو القيام بدينه، والتّأدّب بآدابه، ظاهرا وباطنا.

ولا يستقيم لأحد قطّ الأدب مع اللّه تعالى إلّا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحبّ وما يكره، ونفس مستعدّة قابلة ليّنة متهيّئة لقبول الحقّ علما وعملا وحالا».

2- من الأدب مع اللّه التّأدّب مع القرآن وتلاوته وتدبّره {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} لأنّ في ذلك العلم والمعرفة بما أمر به اللّه عزّ وجلّ ونهى عنه وتعظيم شعائره وعدم انتهاك محارمه. كذلك فإنّه أفضل السّبل وأقربها إلى الثّراء الرّوحيّ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.

3- ومن الأدب مع اللّه التّوجّه إليه سبحانه بالدّعاء، قال تعالى: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً} ودعا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الاستعانة باللّه عزّ وجلّ، واستعان به قائلا «اللّهمّ أعنّي على شكرك وذكرك وحسن عبادتك»، ومنه أيضا الثّناء عليه وتسبيحه وشكره على آلائه العظيمة وهو القائل عزّ وجلّ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ومنه التّوسّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا والاستعاذة والاستغفار والاستعانة به والتّضرّع إليه والتّوكّل عليه في جميع أمورنا.

4- الأدب مع اللّه- عز وجل- في العبادة: قال ابن القيّم- رحمه اللّه تعالى- سمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه اللّه- يقول: من كمال أدب الصّلاة أن يقف العبد بين يدي ربّه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق.

5- ومن الأدب مع اللّه في العبادة: السّكون في الصّلاة، وهو الدّوام الّذي قال اللّه تعالى فيه {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} سئل عقبة ابن عامر عن قوله تعالى {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} أهم الّذين يصلّون دائما؟ قال: لا، ولكنّه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.

قلت- ابن القيّم- هما أمران: الدّوام عليها والمداومة عليها. فهذا الدّوام، والمداومة في قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وفسّر الدّوام بسكون الأطراف والطّمأنينة.

6- وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السّمع وهو شهيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى