خطبة الجمعة 1/1/2016 – أبوهريرة راوية الإسلام
خطبة يوم الجمعة 21/3/1437 الموافق 1/1/2016
1- اختلف في اسمه، واسم أبيه على أقوال كثيرة أبلغها القطب الحلبي إلى أربعة وأربعين قولاً أرجعها الحافظ ابن حجر إلى ثلاثة أقوال. ومن أشهرها أنه كان في الجاهلية يُسَمَّى عبد شمس بن صخر، فلما أسلم سَمَّاهُ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن، وهو من قبيلة دَوْسٍ إحدى قبائل اليمن، وأمه أميمة بنت صفيح بن الحارث دوسية أيضاً وسبب تكنيته بأبي هريرة ما حكاه الترمذي عنه قَالَ: «كُنْتُ أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي وَكَانَتْ لِي هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ فَكُنْتُ أَضَعُهَا بِاللَّيْلِ فِي شَجَرَةٍ فَإِذَا كَانَ النَّهَارُ ذَهَبْتُ بِهَا مَعِي فَلَعِبْتُ بِهَا فَكَنَّوْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ»
2- المشهور أنه أسلم سَنَةَ سبع من الهجرة بين الحديبية وخيبر، وكان عمره حينذاك نحواً من ثلاثين سَنَةٍ، ثم قدم المدينة مع النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رجوعه من خيبر، وسكن «الصُفَّةَ» ولازم الرسول صلى الله علـيه وسلم ملازمة تَامَّةً، يدور معه حيثما دار، ويأكل عنده في غالب الأحيان، إلى أن تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
3- كان – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، آدم بعيد ما بين المنكبين، ذا ضفيرتين أفرق الثنيتين يُصَفِّرُ لحيته ويعفيها، ويحفي شاربه، وكان صادق اللهجة خفيف الروح، مُحَبَّباً إلى الصحابة، مُحِباً للمزاح. أخرج ابن أبي الدنيا في ” كتاب المزاح ” عن الزبير بن بكار أن رجلاً قال لأبي هريرة: إني أصبحت صائماً، فجئت أبي فوجدت عنده خبزاً ولحماً فأكلت حتى شبعت، ونسيت أني صائم، فقال أبو هريرة: الله أطعمك، فخرجت حتى أتيت فلاناً، فوجدت عنده نعجة تحلب، فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله أسقاك، قال: فرجعت إلى أهلي فَقِلْتُ (من القيلولة)، فلما استيقظت دعوت بماء فشربته، فقال: يا ابن أخي، أنت لم تَعَوَّدْ على الصيام! وروى ابن قتيبة في “المعارف” أن مروان بن الحكم استخلف أبا هريرة على المدينة، فركب حماراً قد شد عليه بردعة، وفي رأس الحمار خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: «الطَّرِيقَ … قَدْ جَاءَ الأَمِيرُ»، وقد استغل الطاعنون في أبي هريرة (أمثال جولدتسيهر) هذه الدعابة التي كانت فيه فبنوا عليها أنه كان ضعيف العقل. ويظهر أن مؤلف “فجر الإسلام” يستحسن هذا الرأي، ولذلك أشار فيما كتبه عن أبي هريرة إلى ما ذكره ابن قتيبة من نوادره، ولم يرَ في جميع خلاله وأخلاقه ما يستحق منه مثل هذا التنبيه، ولا ريب أن هذا تحامل على أبي هريرة وتشويه لحقيقته على غير أساس، فظهور الرجل بمظهر المتلطف المداعب المحب للمزاح لا يحط من قدره، ولا يكون مظهراً من مظاهر اضطراب عقله وخفته، وإلا لزم أن يكون كل لطيف مزوح، خفيف العقل، وكل ثقيل الظل جافي الطبع، كبير العقل وافر التفكير.
4- تقدم أنه كان من أهل الصُفَّةِ، وأنه كان يصحب النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكثر الأوقات، ويأكل عنده، وكثيراً ما تحمل آلام الجوع حرصا منه على أن لا يفوته شيء من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرج البخاري عن أبي هريرة: «وَاللهِ اَلَّذِي لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْت لأَعْتَمِد عَلَى الأَرْض بِكَبِدِي مِنَ الجُوعِ، وَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي»، ويقول: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُصْرَعُ بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَيُقَال: مَجْنُونٌ، وَمَا بِي جُنُونٌ، وَمَا بِي إِلاَّ الجُوعُ». ولقد افترى على الحق من زعم أن أبا هريرة كان مُصَاباً بالصرع استناداً إلى كلمته «أُصْرَعُ» الواردة في هذا الأثر، فقد فسر أبو هريرة هذا الصرع بأنه صرع جوع وَفَاقَةٍ، لا صرع جنون ومرض. وأيضاً فالذين تكلموا في حياة أبي هريرة من المُؤَرِّخِينَ المُسْلِمِينَ لم يذكروا لنا أي شيء عن إصابته بهذا المرض، فمن أين جاء بعض المُسْتَشْرِقِينَ بهذه الفرية، وليس لهم ما يرجعون إليه في تاريخ حياته إلا ما كتبه المُؤَرِّخُونَ المُسْلِمُونَ؟!
ذكر ابن كثير في تاريخه عن أبي هريرة ما يرفع شأنه وَيُعْلِي مكانته في قلوب أهل الحق. فقد أخرج بسنده إلى سعيد بن هند عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟». قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقُلْتُ: «أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ» فهل بعد هذا أروع من هذا الإخلاص للحق والعلم؟
وذكر ابن كثير أيضاً أن ابنة أبي هريرة قالت له يوماً: «يَا أَبَتِ إِنَّ البَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي، وَيَقُلْنَ لِي: لِمَ لاَ يُحَلِّيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ؟»، فَقَالَ: «يَا بَنَيَّةَ: قُولِي لَهُنَّ: إِنَّ أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ»!
وأما الجاه فإن الرجل الذي رضي في سبيل الهجرة إلى رسول الله أن يخدم قافلة مسافرة في الطريق ويرضى أن يسكن في الصُفَّةِ مأوى الذين لا بَيْتَ لهم ولا سكن، وأن يتحمل مَرَارَةَ الجوع في سبيل العلم، وحمل أمانته هو رجل أبعد ما يكون عن طلب الجاه. حتى إن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما استعمل أبا هريرة على البحرين، ثم قدم ببعض المال فحاسبه عليه عمر، فلم يجد في مكسبه مدخلاً لإثم، رفض أن يلي العمل مَرَّةً ثانية لعمر. وكان مِمَّا قاله: أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم.
5- أما عبادته وورعه فقد نقل ابن حجر عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الطُّفَاوَةِ، َقالَ: «نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ أُدْرِكْ مِنْ الصَحَابَةِ رَجُلاً أَشَدَّ تَشْمِيرًا، وَلاَ أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْهُ». وأخرج أحمد عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، قَالَ: «تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا: يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا». وأخرج ابن سعد عَنْ ِكْرِمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةً يَقُولُ: «أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي». وروى معمر بن راشد عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ بَعَشَرَةِ آلاَفٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: “اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَعَدُوَّ كِتَابِهِ”، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: “لَسْتُ عَدُوَّ اللَّهِ، وَلاَ عَدُوَّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا”، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: “خَيْلٌ لِي تَنَاتَجَتْ، وَغُلَّةُ رَقِيقٍ لِي، وَأُعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ” فَنَظَرُوهُ، فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، دَعَاهُ عُمَرُ لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ: “أتَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ طَلَبَ الْعَمَلَ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكَ يُوسُفُ؟” قَالَ: “إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ابْنُ أُمَيْمَةَ أَخْشَى ثَلاَثًا وَاثْنَيْنِ”، قَالَ لَهُ عُمَرُ: “أَفَلاَ قُلْتَ: خَمْسًا؟” قَالَ: “لاَ، أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَيُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَالِي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي”».
6- حفظه وقوة ذاكرته: كان من أثر ملازمة أبي هريرة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ملازمة تامة، أن اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله، ولقد كان سيء الحفظ حين أسلم، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: «افْتَحْ كِسَاءَكَ»، فَبَسَطَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «ضُمَّهُ إِلَى صَدْرِكَ» فَضَمَّهُ، فَمَا نَسِيَ حَدِيثًا بَعْدَهُ قَطُّ. وهذه القصة – قِصَّةُ بَسْطِ الثَّوْبِ – أخرجها أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد والنسائي، وأبي يعلى، وأبي نعيم.
والحفظ من الميزات التي امتاز بها العرب، وفي الصحابة وكبار التَّابِعِينَ ومن بعدهم، من كان آية في سرعة الحفظ وقوة الذاكرة، ومن علم أن البخاري كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث بأسانيدها، وأن أحمد بن حنبل كان يحفظ ستمائة ألف حديث، وأن أبا زرعة كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، لا يستغرب على أبي هريرة أن يحفظ ما حفظ، وكل أحاديثه التي أثرت عنه كما جاء في “مسند بقي بن مخلد”، خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حَدِيثًا، وما زال علماء العربية وكبار الشعراء قَدِيمًا وَحَدِيثًا يحفظون من الشعر والنثر ما لا يُعَدُّ شَيْئًا بجانبه حفظ أبي هريرة لأحاديثه التي حَدَّثَ بها، فها هو الأصمعي كان يحفظ خمسة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب كما يذكر الرُوَاةُ.
ولقد ذكر الكاتب المُحَقِّقُ الأستاذ محب الدين الخطيب ما شاهده من حفظ الشيخ الشنقيطي رَحِمَهُ اللهُ ما يدعو إلى الدهشة، وإليك ما قاله في ذلك: «نحن نعرف معرفة شخصية الأستاذ العَلاَّمَة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رَحِمَهُ اللهُ وكان يحفظ الشعر الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نَعُدُّ ما يحفظه لكان شيئاً عظيماً وكتابه “الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط” كتبه من أوله إلى آخره من حفظه إجابة لاقتراح شيخنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي هذا الكتاب أنساب أهل شنقيط رجالاً ونساءً، وذكر قبائلهم وما نظموه وما يؤثر عنهم من مؤلفات وأخبار، ولم يكن لذلك مرجع يرجع إليه قبل كتاب “الوسيط” الذي ألفه الشيخ أحمد بن الأمين على ما نعرفه نحن شخصياً، فما حفظه أبو هريرة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – من أحاديث رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في طول صحبته لا يجيء في كميته شيئاً بجانب ما شاهدناه من محفوظ الشيخ الشنقيطي فضلاً عن غيره من رجال أُمَّتِنَا الممتازين بجودة الحفظ وقوة الذاكرة». اهـ..
على أن الصحابة في عصره اعترفوا له بكثرة الحفظ كما ستسمع، وامتحنه مروان في دقة حفظه، فخرج من الامتحان فائزاً، وذلك كما نقله ابن حجر في الإصابة عن أبي الزُعَيْزِعَةِ كاتب مروان: من أن مروان أرسل إلى أبي هريرة فجعل يُحَدِّثُهُ، وأجلس أَبَا الزُعَيْزِعَةِ خلف السرير يكتب ما يُحَدِّث به حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إلى أبي هريرة فسأله في تلك الأحاديث، فأعادها عليه، فنظر مروان في المكتوب عنده فما غَيَّرَ حرفاً، ولعل في هذا ما يرد إفك المُسْتَشْرِقِينَ المُتَعَصِّبِينَ وأذنابهم من المُسْلِمِينَ الذين يشككون في حفظ أبي هريرة وصدقه لا لغرض منهم عند أبي هريرة نفسه، ولكنها إحدى محاولاتهم للنيل من الإسلام والتشكيك في سلامة بنيانه.
7- ثناء الصحابة عليه؛ قد تتابع النقل عن الصحابة ومن بعدهم في الثناء عليه:
- قال طلحة بن عبيد الله: «لاَ أَشُكُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ».
- وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَبُو هُرَيْرَةَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ بِمَا يُحَدِّثُ».
- وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: عَلَيْكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي بَيْنَمَا أنا وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَفُلاَنٌ فِي الْمَسْجِدِ، ذَاتَ يَوْمٍ نَدْعُو اللهَ، وَنَذْكُرُ رَبَّنَا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَسَكَتْنَا فَقَالَ: «عُودُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ» قَالَ زَيْدٌ: فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبي قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِنَا، ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: “اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِثْلَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ هَذَانِ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى”، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمِينَ»، فَقُلْنَا: “يَا رَسُولَ اللهِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى”، فَقَالَ: «سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلاَمُ الدَّوْسِيُّ».
- وقال عمر لأبي هريرة: «إِنْ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ».
- وَقَالَ أُبَيٌّ بْنِ كَعْبٍ: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَشْيَاءَ لاَ يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ».
- وقال الشافعي: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ».
- وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «رَوَىَ عَنْهُ نَحْوُ الْثَّمَانِمِائَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ أَحْفَظَ مِنَ رَوَىَ الْحَدِيثَ فِيْ عَصْرِهِ».
- وَقَالَ أَبُو صَالِح: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ أَصْحَابِ رَسُوْلِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
- وَقَالَ سَعِيْدٍ بْنِ أَبِي الحَسَنِ (أَخُو الحَسَنِ الْبَصْرِيِّ): «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْصَّحَابَةِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ».
- وَقَالَ الْحَاكِمُ: «كَانَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْزَمَهُمْ لَهُ، صَحِبَهُ عَلَىَ شِبَعِ بَطْنِهِ، فَكَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِهِ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ إِلَى أَنْ مَاتَ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ حَدِيثُهُ».
- وَقَالَ أَبُوْ نُعَيْمٍ: «وَكَانَ أَحْفَظَ الْصَّحَابَةِ لأَخْبَارِ رَسُولِ الْلَّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا بِأَنْ يُحَبِّبَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُحِبُّ لأَبِي هُرَيْرَةَ».
- وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «أَجْمَعَ أَهْلُ الحَدِيثِ عَلَىَ أَنَّهُ أَكْثَرُ الْصَّحَابَةِ حَدِيثًا»
- وَقَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ قِصَّةً الثَّوْبِ: «وَالحَدِيْثُ المَذْكُوْرُ مِنْ عَلاَمَاتِ الْنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ أَحْفَظُ الْنَّاسِ لِلأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِيْ عَصْرِهِ».
هذا وقد كره فريق من السلف الصالح من الصحابة والتَّابِعِينَ كتابة الحديث كَيْلاَ يُتَّكَلَ على الكتابة وحدها فتضعف مَلَكَةُ الحفظ، أخرج ابن عبد البر في “جامع بيان العلم ” بسنده إلى إبراهيم النخعي قال: «لاَ تَكْتُبُوا فَتَتَّكِلُوا». وقال أيضاً: «قَلَّمَا كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إِلاَّ اتَّكَلَ عَلَيْهِ». وأخرج أيضاً عن الأوزاعي: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيئا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاقُونَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَىَ غَيْرِ أَهْلِهِ»
8- مرضه ووفاته: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الْدُّنْيَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ شَدِيْدُ الْوَجَعِ فَاحْتَضَنْتَهُ، فَقُلْتُ: «الْلَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ»، فَقَالَ: «الْلَّهُمَّ لاَ تُرْجِعَهَا – قَالَهَا مَرَّتَيْنِ -» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ فَمُتْ، وَالْلَّهِ الَّذِيْ نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَىَ النَّاسِ زَمَانٌ يَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَىَ قَبْرِ أَخِيهِ فَيَتَمَنَّى أَنَّهُ صَاحِبُهُ». وروى أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: «لاَ تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطَا وَلاَ تَتْبَعُونِي بِمِجْمَرَةٍ وَأَسْرَعُوا بِيَ».
وأخرج البغوي عن أبي هريرة أنه لما حضرته الوفاة بكى فسئل فقال: «مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَشِدَّةِ المَفَازَةِ». ودخل مروان عليه في مرضه الذي مات فيه قال: «شَفَاكَ اللهُ»، فقال أبو هريرة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِيِ». ثم خرج مروان فما بلغ وسط السوق حتى مات. وصلى عليه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان بعد العصر سَنَةِ سبع أو ثمان أو تسع وخمسين. وعمره ثمان وسبعون أو تسع وسبعون سَنَةً. ولما بلغ معاوية نعيه أمر عامله بالمدينة أن يدفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم ويحسن جوارهم، لأنه كان مِمَّنْ نصر عثمان يوم الدار رَحِمَهُ اللهُ ورضي عنه وأجزل مثوبته.
9- ابن كثير أن مروان بن الحكم قال لأبي هريرة مغضباً حين نازعه في دفن الحسن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا إِنَّك أَكْثَرْتَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الحديث، وَإِنَّمَا قَدِمْتَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ “، فقال أبوهريرة: “نَعَمْ! قَدِمْتُ وَرَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ زِدْتُ عَلَى الثَّلاَثِينَ سَنَةً، سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، أَدُورُ مَعَهُ فِي بُيُوتِ نِسَائِهِ وَأَخْدِمُهُ، وَأَنَا وَاللهِ يَوْمَئِذٍ مُقِلٌّ، وَأُصَلِّي خَلْفَهُ، وَأَحُجُّ وَأَغْزُو مَعَهُ، فَكُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ وَاللَّهِ سَبَقَنِي قَوْمٌ بِصُحْبَتِهِ وَالهِجْرَةِ إِلَيْهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ لَزَوَمِي لَهُ فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا يَخْفَىَ عَلَيَّ كُلُّ حَدِيثٍ كَانَ بِالمَدِيْنَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٌ صَاحِبَهُ فِي الغَارِ، وَغَيُّرُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ الْلَّهِ أَنْ يُسَاكِنَهُ – يُعَرِّضُ بِأَبِي مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ” – ثُمَّ قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: “لَيَسْأَلْنِيْ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ (كُنْيَةَ مَرْوَانَ) عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالاً”، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ مَرْوَانُ يُقَصِّرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَخَافُهُ وَيَخَافُ جَوَابَهُ».
وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان: «إِنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّارِ وَمَوْضِعَ الدَّعْوَةِ، أَخْرِجْتُمْ الدَّاعِي مِنْ أَرْضِهِ، وآذَيْتُمُوهُ وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إِسْلاَمَكُمْ عَنْ إِسْلاَمِيِ فِي الوَقْتِ المَكْرُوْهِ إِلَيْكُمْ»، فَنَدِمَ مَرْوَانُ عَلَىَ كَلاَمِهِ لَهُ وَاتَّقَاهُ -. اهـ