خطبة الجمعة 26/8/2011 – حسن الختام
خطبة يوم الجمعة 26/9/1432 الموافق 26/8/2011
فنحن في ختام شهر مبارك كريم، قد وفق فيه الطيبون لكثير من الطاعات، وأقبلوا على الله تعالى بصالح أعمالهم؛ فصاموا نهارهم وقاموا ليلهم وكفوا أيديهم وغضوا أبصارهم؛ صدقوا حين حدثوا وأوفوا لما عاهدوا، وأدوا حين ائتمنوا؛ ورأى الله من حالهم خيراً؛ وهم في ختام رمضان قد تفطرت قلوبهم وتفتت أكبادهم وامتلأت مآقيهم بالدموع حزناً لفراق شهر عظم خيره وتتابع بره، وازدادوا فيه إيماناً، وتعرفوا فيه من الله الزيادة، وذاقوا فيه طعم الإيمان وحلاوة الطاعة والأنس بالله عز وجل. قد نسأ الله في آثارهم ومد في آجالهم حتى صاموا وقاموا؛ وما يدرون أيدركون رمضان من عام آخر، أم يحال بينهم وبين ما يشتهون فينزل بهم الموت قبل أن يدركوه.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله وهو أصدق القائلين: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أخِي المسلم، لنتدبَّر هذه الآية؛ أمرنا الله بالعمَل، فإنّا ما خُلِقنا عبثًا، خلِقنا لنعبدَ الله، خلِقنا لننفِّذَ أوامرَ الله، خلِقنا لنقومَ بما أوجب الله علينا. تُعُبِّدنا بهذه الشّريعة؛ لنقومَ بحقيقَتِها عِلمًا وعمَلا، ظاهرًا وباطنًا؛ لنكونَ مؤمنين حقًّا: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، والله عالمٌ ما العِباد عامِلون، ولكنّه جلّ وعلا لا يعاقِب العبد حتى تظهَر مخالفتُه وعصيانُه وتقومَ الحجة عليه، فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
إنَّ مردَّكم إلى الله عالم الغيبِ والشهادة، استوَى في علمه ما خفيَ وما أُعلِن، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
لتكن أيّها المسلم في ختام رمضان بين الخوف والرجاء؛ ترجو من الله القبول، وتخاف أن يرد عليك عملك؛ لِذاَ اشتدَّ خوفُ صالحي هذه الأمّة على أنفسهم، وخافوا على أعمالهم، فجَمَعوا بين الخوفِ من اللهِ وحسنِ العمل، إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ.
هؤلاءِ الصُّلَحاء خافوا على أعمالهم أن يعرضَ لها رياءٌ يبطِلها، أو يعرض لها ـ والعياذ بالله ـ شكوكٌ وارتيابٌ فتحبط الأعمال، خافوا على أعمالهم، ولم يثقوا بأنفسِهم، بل عظُم التجاؤُهم إلى الله، وقوِيَت الرغبةُ في الاضطرار بين يدَي ربهم، فهم دائمًا يقولون: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، ويتذكرون قول الله لنبيه : وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.
إن المؤمنَ يعمل، ولكن نصبَ عينيه خاتمةُ الأعمال، لا يدري ما يختَم له بِه، يخاف من تحوُّل منَ الإيمان إلى الكفر، ومن استقامةٍ إلى انحراف، ومن لزومِ الطريق إلى البُعد عنه، يرَى أناسًا اختلفت أهواؤهم، وتغيَّرت أفكارهم، وتنوَّعت آراؤهم، فهم يومًا دعاةٌ إلى الخير والصلاح، ويومًا ينقضونَ ما بنَوا ويبدِّلون ما قالوا بسوءٍ وأعمالٍ سيّئة. إذًا فهو يخاف على نفسِه أن يخدعَه الشيطانُ فيستولي عليه، فينسِيه ذكرَ الله، ويُصدّه عن سبيل الله المستقيم، فيختَم له بسوء، فيلقى الله على غيرِ هدًى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك؛ ولذا قال الله لعباده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَالزَموا الإسلام، واثبتوا عليه، واستقيموا عليه، حتى يوافيَكم الموتُ وأنتم على الإسلامِ ملازِمين، غيرَ مبدِّلين ولا مغيِّرين.
واسمع ما قال الله عن نبيِّه يعقوبَ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، الزَموا الإسلام علمًا وعملا، واعمروا في الباطنَ والظاهر، وسَلوا الله الثباتَ على الحق؛ فإنّ الله بيده قلوبُ العباد يقلِّبها كيف يَشاء، وسيِّدُ ولد آدم سيّد الأولين والآخرين وإمامُ الأنبياء والمرسلين يقول دائما: ((اللّهمّ مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، تسأله عائشة: هل تخاف يا رسول الله؟! فيجيبها قائلا: ((إنَّ قلوبَ العباد بين أصبعين من أصابِع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، إذا أراد أن يقلِبَ قلبَ عبدٍ قلَبَه)).
أيّها المسلم، فمِن علامةِ توفيقِ الله لك ومِن علامة خاتمةِ الخير لك أن توَفَّقَ في بقيّةِ عمرِك لأعمالٍ صالحة، تستقيم عليهَا، تثبُت عليها، تمضي بقيّةَ عمرك عليها، يقول أنس رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمَله))، قالوا: كيف يستعمِلُه يا رسولَ الله؟! قال: ((يوفِّقُه لعملٍ صالحٍ قبل الموت))، فيتداركه الله بتوبةٍ نصوح، فيبدّل سيئاته حسنات، ويتحلَّل من مظالم العباد، ويتوب إلى اللهِ مِن سيئاتِ الأقوال والأعمالِ، حتى إذا حضره الموتُ ودنا انتقالُ الروح من الجسد فإذا هو ثابتٌ على الحق، ثابتٌ على الهدَى، تُزَفّ له البشارة وهو على فراشه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ. هكذا أولياء الله الصادقون الذين أخلصوا لله أعمالهم، وصدقوا مع الله في تعامُلِهم، فلم يكن رياء ولا سمعة، ولا محبة للشهرة، ولا إرادة العلوّ في الأرض، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
أيها المسلم، إنَّ المسلمَ ينبغي دائما له أن يسألَ الله حسنَ الخاتمة، يسأل اللهَ أن يختمَ عمرَه بخير، وأن يجعلَ بقيّةَ عمرِه خيرا من ماضِيه، فهو دائما يقول: اللّهمّ اجعل خير أعمارِنا أواخرَها، وخير أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامنا يومًا نلقاك فيه.
أيّها المسلم، حُسن الخاتمة أقضَّ مضاجعَ الصالحين، وكدّر عليهم صفوَ حياتهم، لا والله، [ليس] سوء ظنٍّ بربّ العالمين، فحاشا ذلك، لكن اشتدّ خوفهم من أنفسهم أن يؤتَوا من قبَل أنفسهم من أعمال سيئةٍ استبطنوها ومعاصٍ واصلوها، يخافون أن لا يمَكَّنُوا مِن توبة، وأن تَستمِرّ بهم الشهواتُ والملذّات، فتنقضي الأعمارُ بلا فائدةٍ، فهم يخافون على أنفسهم، ويعلمون قولَ الله: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وقولَه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فاسألِ الله خاتمةَ خير، واسألِ الله أن تلقاه وأنت على الإسلام لم تبدِّل ولم تغيِّر، بل أنتَ مستقيمٌ على هذا الهدَى.
أيّها المسلم، أسبابُ الخاتمة الحميدةِ أمورٌ كثيرة، فأعظمها تقوَى الله في السرِّ والعلانِية، ((اتَّق الله حيثما كنت))، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، تقوى حقيقيّة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا.
الإخلاصُ لله في القولِ والعمل، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
الاستقامة على الهدى ولزوم الطريقِ المستقيم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ قال لرجل سأله، قال: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)).
يا أخي، تذكّر الموت وما بعدَه، فعَسى أن يكونَ في التذكُّر عبرة وعِظة. تذكَّروا الجنة ونعيمَها والنار وآلامها أغلالها.
وأمرٌ آخر: استشعارُ قلبِك بكمال علمِ الله بك وكمالِ اطلاعِه على سرك وعلانيتك، وأنَّ الله لا يخفَى عليه شيء من أمرك، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا.
الإكثارُ من ذكرِ الله والالتجاءُ إليه دائمًا وأبدا؛ فإنَّ الله من فضله أنّه لا يخيِّب رجاءَ من رجاه، فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ولكن الخوف من معاصٍ أصرَرتَ عليها، أخفيتَها عن الناسِ والله مطَّلِع عليها، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ.
ومن أسبابِ حسن الخاتمة الإكثارُ من تلاوة القرآن والمحافظة على فرائض الإسلام بإخلاص ويقين، وربُّك لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملا.
فاسأل الله خاتمةَ الخير، واحذَر أن تخونَك أعمالك في تلكَ اللّحظات، فيظهر على فَلَتات لسانك ما كنتَ تضمِره من سوءِ الاعتقاد، أو ما كنتَ تضمِره من محبّة المعاصي، أو ما كنتَ تضمِره من الظلمِ والعدوان، أو ما كنتَ تضمره من قلّةِ الإخلاص والرّياء، فيظهر ذلك على لسانِك عندَ الموت، فتلقى الله على غير هدى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ عواقب الذنوب، واستقِيموا على طاعةِ علاّم الغيوب.
يا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وتخلَّقوا بصالحِ العمل، واعلَموا أنَّ من شبّ على شيءٍ شابَ عليه، ومن شابَ على شيءٍ ماتَ عليه، ومن مات على شيءٍ بُعِث عليه.
يا أيّها المسلم، ليس للموتِ مَرضٌ معلوم، وليس للمَرض سِنّ معلوم، وليس للموتِ وقتٌ معلوم، ولكنها آجالٌ بيَدِ الله، إذا حضَر الأجل فلا رادّ له، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. فلنستعدَّ للقاء الله، ولنستعدَّ للأعمالِ الصالحة، ولنخلِص لله أقوالَنا وأعمالَنا، ولنسألِ الله الثباتَ على الحق والاستقامةَ عليه إلى أن نلقاه، ولنكثِر: “يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك”، فإنَّ الله إذا أرادَ أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.