خطبة يوم الجمعة 4/11/1443 الموافق 4/6/2022
إن ناساً كثيرين يحسبون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كلها حرب وقتال، غزوات وبعوث، سرايا وجيوش؛ وما درى هؤلاء أن سيرته عليه الصلاة والسلام إنما هي سيرة إنسان سالم وحارب، وخاصم وعاهد، ودعا إلى الله وقاتل، وأنه كان الأسوة والقدوة في ذلك كله؛ {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} وهذا الشهر المبارك شهر الله الحرام شهر ذي القعدة وقعت فيه أحداث عظيمة، يستطيع المسلم أن يستفيد منها دروساً في السياسة والدبلوماسية والأخلاق وكيفية إدارة الأزمات والاستفادة من الفرص، مع الثقة في نصر الله، والتوكل عليه سبحانه، مع الرضا بقدره
وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أعواماً ستة لم يزر مكة بلد الله الحرام، ولا رأى بيت الله الحرام، وقد استبد به وبالمسلمين الشوق إلى تلك العرصات المقدسة والبقاع الطاهرة؛ فعزموا على الخروج إلى مكة معتمرين
1/ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في زهاء ألف وخمسمائة من المهاجرين والأنصار في ذي القعدة من العام السادس، ومن لحق بهم من الأعراب، واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، وأحرم بالعمرة هو والكثيرون من أصحابه، وساق معه الهدي سبعين بعيراً حتى يكون إيذاناً للناس أنه لم يرد حرباً، وإنما خرج زائراً للبيت ومعظماً له.
2/ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»
3/ ثم تفادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاصطدام بخيل المشركين فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟»، فقال رجل من أسلم: أنا، فسلك بهم طريقاً وعراً صعباً خرجوا منه بعد مشقة وجهد، فأفضوا إلى أرض سهلة منبسطة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا، نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوها، فقال: «والله إنها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» ثم سلكوا طريقاً انتهى بهم إلى ثنيّة المرّار قرب الحديبية.
وفي هذا المكان بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأت – حرنت – القصواء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما هو بخلق لها، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» ثم قال للناس: «انزلوا» فقالوا: ما بالوادي من ماء ينزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في بئر فغرزه في جوفه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس بعطن، فشربوا وسقوا دوابهم.
4/ رأت قريش ألا قبل لها بحرب المسلمين، وإلّا دارت عليهم الدائرة، ونما إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً، فأرسلت إليه من يفاوضه تعرفاً على قوة المسلمين وعزمهم على القتال من جهة، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة أخرى.
5/ فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة – وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها وكافرها، لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة – فسألوه عما جاء به، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائراً للبيت ومعظّماً له، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإنه لم يأت لقتال، وإنما جاء زائراً للبيت، فاتهموهم وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالاً فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة!!
5/ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا رجل غادر»، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له نحو ما قال لبديل، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.
6/ ثم بعثوا بحليس بن علقمة سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فأخبرهم بما رأى، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّماً له!! والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا: مه، كفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
7/ ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً يطمئنون إليه، وهو عروة بن مسعود الثقفي، فخشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه وهو من يعرفون، فقالوا له: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله، فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك – بلدك – لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. فلم يتمالك الصدّيق نفسه – وقد أحفظته هذه المقالة الكاذبة – أن ردّ على عروة رداً جارحاً مؤلماً، فقال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة»، فقال له: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه.
8/ وكان عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مدجّج في السلاح، فجعل يقرع يد عروة بنعل سيفه ويقول له: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك، فاغتاظ عروة وقال: من هذا يا محمد!: قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة»، فقال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس!!
فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كلم به من سبقه وأنه ما جاء يريد حربا، وكان عروة يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعرف أحوالهم، فرأى أمراً عجيباً: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده!! وإذا أمرهم ابتدروا أمره: أيهم ينفذه أولاً!! وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه!! وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له!!
فرجع عروة إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبدا، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فإني لكم ناصح، فقالت قريش: لا تتكلم بهذا، ولكن نرده عامنا هذا ويرجع من قابل.
9/ وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصاً على حرمة البيت، وإيثاراً للسلام على الحرب أن يرسل رسلاً إلى قريش بمكة، لاحتمال ألا يكون عند رسل قريش من الشجاعة ما يحملهم على المصارحة بالحقيقة. فأرسل خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش، حمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم ما جاء الرسول إليه، لكنهم استبد بهم الحمق والغضب، فعقروا به البعير، وأرادوا قتله، لولا أن منعتهم الأحابيش أحلافهم، فخلّوا سبيله. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليكون رسولا إلى أهل مكة، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني: عثمان بن عفان، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم منه الاعتذار، واستحسن ما عرضه عليه، فدعا عثمان فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش ليخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
10/ واحتبست قريش عثمان عندها، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا إلى البيعة تحت شجرة سمرة هناك، فبايعه بعضهم على الموت، وبعضهم على ألا يفروا، ولم يتخلّف عن المبايعة إلا الجدّ بن قيس، فقد لصق بإبط ناقته يستتر من الناس، وكان أول من بايع أبو سفيان وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، ولما تمت البيعة للحاضرين ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه على الاخرى وقال: «وهذه لعثمان»، فكانت يد رسول الله لعثمان خيراً من يده لنفسه، وهذه البيعة هي بيعة الرضوان لقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو صلح الحديبية. وبهذه البيعة أصبح المسلمون على استعداد لمناجزة قريش، وجعل كل واحد منهم يترقب يوم الظفر ويوم الاستشهاد بنفس راضية وقلب مطمئن. وإنهم لفي استعداد للمناجزة إذ ترامى إليهم أن عثمان لم يقتل، ثم لم يلبث أن جاء إليهم سالما، وبذلك كفى الله المؤمنين القتال، وحقق رغبتهم في السلام.
11/ وأرسلت قريش نحوا من خمسين رجلاً منهم، عليهم مكرز بن حفص ليطيفوا بعسكر المسلمين عسى أن ينالوا منهم غرّة، فأسرهم حارس الجيش محمد بن مسلمة؛ وهرب رئيسهم، وأتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم تشبثاً منه صلى الله عليه وسلم بخطة السلم، واحتراماً للشهر الحرام أن يسفك فيه دم، وقد بهتت قريش حين عرفوا ذلك، وسقطت كل حجة لهم في أن النبي يريد حرباً، وأيقنوا أن أي اعتداء من جانبهم على المسلمين لن تنظر إليه العرب إلا على أنه غدر لئيم، للمسلمين الحق كل الحق في أن يدفعوه – وما أقدرهم- بكل ما أوتوا من قوة، وفي هذا نزل قول الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}
12/ لم يكن بدّ لقريش وقد جرى ما جرى من أن تفكر في الصلح جديا، وأن تنتهي هذه الحالة التي قد تدور بسببها الدائرة عليهم، فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ائت محمداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فلما انتهى سهيل إلى رسول الله وراه تفاءل به وقال: «لقد سهل لكم من أمركم» وتكلم سهيل فأطال الكلام، وتراجع هو والنبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهيا إلى صيغة الصلح، وتم الاتفاق ولم يبق إلا الكتاب.
13/ كانت شروط الصلح على ما يأتي:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن بينهم عيبة مكفوفة، فلا إسلال – سرقة – ولا إغلال – خيانة -.
2- من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.
3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل. فدخلت خزاعة في عهد الرسول، ودخلت بنو بكر في عقد قريش.
4- أن يرجع النبي وأصحابه من غير عمرة هذا العام، فإذا كان العام القابل خرج عنها المشركون، فيدخلها المسلمون ويقيمون بها ثلاثاً ليس معهم من السلاح إلا السيوف في قربها – أغمادها -.
وقبل النبي هذه الشروط على ما في بعضها بادي الرأي من إجحاف بالمسلمين؛ لأنه يصدع بأمر الله وإلهامه ولن يضيعه الله أبدا، ولحرصه على أن يسود السلام ويحفظ للبيت حرمته.