1- الإنسان مدني بطبعه، لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا بد له من مخالطة الناس، وهذه المخالطة يحصل بها من الاختلاف والعداوة والشقاق والنزاع شيء كثير؛ وذلك لاختلاف الناس في أخلاقهم وأحوالهم وطبائعهم وميولهم واختياراتهم {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} وقد أوجب علينا جل جلاله أن نسعى بالصلح بين الناس
2- الآيات الآمرة بالإصلاح فيها بيان أجر المصلحين؛ حيث بين سبحانه أن الساعين بالإصلاح بين الناس لهم مغفرة وأجر عظيم؛ فقال سبحانه {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}، وجعل الإصلاح من وظيفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فهذا شعيب عليه السلام يقول عن نفسه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} ونهانا سبحانه وتعالى أن نتذرع بالأيمان لنمتنع من الإصلاح؛ فقال: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} بل إن الإصلاح بين الناس يتولاه رب العالمين جل جلاله بنفسه في ذلك اليوم العبوس القمطرير {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إذ رأيناه ضحك حتّى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمّي؟ قال: «رجلان من أمّتي جثيا بين يدي ربّ العزّة، فقال أحدهما: يا ربّ خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تبارك وتعالى للطّالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا ربّ فليحمل من أوزاري» قال: وفاضت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبكاء ثمّ قال: «إنّ ذاك اليوم عظيم يحتاج النّاس أن يحمل عنهم من أوزارهم. فقال الله تعالى للطّالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان. فرفع رأسه فقال: يا ربّ أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكلّلة باللّؤلؤ لأيّ نبيّ هذا؟ أو لأيّ صدّيق هذا؟ أو لأيّ شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثّمن. قال: يا ربّ ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال يا ربّ فإنّي قد عفوت عنه. قال الله عزّ وجلّ: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنّة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: اتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإنّ الله تعالى يصلح بين المسلمين»
ومن تلك المجالات التي نسعى بالإصلاح فيها:
- الإصلاح بين الناس فيما يتعلق بالوصية؛ فقد قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
- الإصلاح بعد حصول الطلاق؛ فقال سبحانه {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
- الإصلاح بين الأزواج وزوجاتهم حال حصول الشقاق {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً}
- وأمر سبحانه بالإصلاح حال حصول الخلافات المالية أو السياسية؛ فقال {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
3- وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ما يدعو إلى الإصلاح بين الناس، حيث بيَّن أجر المصلحين؛ فعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» وأباح لنا صلى الله عليه وسلم أن نكذب من أجل أن نصلح بين الناس؛ فعن أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- وكانت من المهاجرات الأول اللّاتي بايعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «ليس الكذّاب الّذي يصلح بين النّاس، ويقول خيرا وينمي خيرا»
وأخبر صلوات الله وسلامه عليه بما تؤدي إليه الشحناء من المفاسد، ومن أعظمها حرمان المغفرة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين، ويوم الخميس فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا» ومن ذلك:
- عن أبي موسى قال سمعت الحسن يقول: «استقبل والله الحسن بن عليّ معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنّي لأرى كتائب لا تولّي حتّى تقتل أقرانها، فقال له معاوية- وكان والله خير الرّجلين-: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور النّاس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس- عبد الرّحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز- فقال: اذهبا إلى هذا الرّجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه، فتكلّما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن عليّ: إنّا بنو عبد المطّلب؛ قد أصبنا من هذا المال، وإنّ هذه الأمّة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنّه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلّا قالا: نحن لك به، فصالحه: فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر والحسن بن عليّ إلى جنبه وهو يقبل على النّاس مرّة وعليه أخرى ويقول: «إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»
- عن أنس رضي الله عنه قال: قيل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وركب حمارا فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة- فلمّا أتاه النّبيّ قال: إليك عنّي. والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتما فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنّعال. فبلغنا أنّها أنزلت {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما}
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ سلامى من النّاس عليه صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشّمس يعدل بين النّاس صدقة»
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول: والله لا أفعل!! فخرج عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أين المتألّي على الله لا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحبّ!!
- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ أهل قباء اقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»
قال الفضيل: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل يا أخي اعف عنه فإنّ العفو أقرب للتّقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عزّ وجلّ قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل وإلّا فارجع إلى باب العفو فإنّه باب أوسع؛ فإنّه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام اللّيل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلّب الأمور)