1ـ ما الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق؟ إنه أمله في الحصاد، وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر ومفارقة الأهل والأوطان؟ إنه أمله في الربح، وما الذي يدفع الطالب إلى الجد والمثابرة والسهر والمذاكرة؟ إنه أمله في النجاح، وما الذي يحفز الجندي إلى الاستبسال في القتال والصبر على قسوة الحرب؟ إنه أمله في النصر، وما الذي يحبب إلى المريض الدواء المر؟ إنه أمله في العافية، وما الذي يدعو المؤمن أن يخالف هواه ويطيع ربه؟ إنه أمله في رضوان ربه وجنته. الأمل ـ إذاً ـ قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، كما أنه يدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، ويحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه.
2ـ إن الأمل الذي نتحدث عنه هنا ضد اليأس والقنوط، إنه يحمل معنى البشر وحسن الظن، بينما اليأس معول الهدم الذي يحطم في النفس بواعث العمل. ويُوهي في الجسد دواعي القوة؛ ولهذا قال ابن مسعود t {الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب} والقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته. قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب، والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، لأن ما يطلبه مستحيل في نظره.
3ـ الإيمان يبعث في النفس الأمل ويدفع عنها اليأس والأسى. فالمؤمن الحق يرى أن الأمور كلها بيد الله تعالى فيحسن ظنه بربه ويرجو ما عنده من خير وأمام عينيه قول النبي r فيما يرويه عن ربه U {أنا عند ظن عبدي بي} كيف يتطرق اليأس إلى نفس المؤمن وهو يقرأ قول الله تعالى )ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون( أم كيف يتمكن منه قنوط وهو يردد كلما قرأ القرآن قوله تعالى )ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون( إن العبد حين يكون مؤمناً حقاً فإنه لن ييأس بل سيكون دائماً مستبشراً راضياً متطلعاً للأحسن في كل الأمور أصابه في طريقه ما أصابه وقد قال الرسول الكريم r {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} فهو في كل الأحوال موعود بالخير فكيف ييأس؟
4ـ إن المؤمن ومن خلال إيمانه يستشعر أن الله U معه وهو ناصره وكافيه؛ فإذا مرض رجا العافية والأجر )وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ( وإذا ضعفت نفسه في وقت من الأوقات فوقع في معصية سارع بالتوبة راجياً عفو الله ورحمته واضعاً نصب عينيه قوله تعالى )قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( وإذا أصابه ضيق أو عسر أيقن أنها شدة عما قريب ستنجلي فلن يغلب عسر يسرين )فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ~ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(
5ـ الأمل لابد منه لتحقيق التقدم في كل المجالات، فلولا الأمل ما شُيِّدت الحضارات ولا تقدَّمت العلوم والاختراعات، ولا نهضت الأمم من كبوات تصيبها ،ولا سرت دعوة إصلاح في المجتمعات،وقديماً قال بعض الحكماء: لولا الأمل ما بنى بانٍ بنياناً، ولا غرس غارسٌ غرساً. وفي هذا المعنى قال الشاعر:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
وقال الطغرائي (الوزير الشاعر):
ولا تيأسنْ من صنـع ربك إنه ضمين بأن الله سوف يُديـل
فإن الليـالي إذ يـزول نعيمها تبشـر أن النـائبات تـزول
ألم تر أن الليـل بعد ظلامـه عليه لإسـفار الصبـاح دليل
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها لها صفحة تغشي العيون صقيل
وأن الهلال النضو يقمر بعد ما بدا وهو شخت الجانبين ضئيل
فيا أيها المؤمن كن حسن الظن بربك مؤملاً منه الخير والنصر والفرج،فإن ابتليت فاصبر؛ واعلم أن العسر لو دخل جحراً لتبعه اليسر، فكن صبوراً مقداماً واستعن بالله ولا تعجز :
لا خير في اليأس كل الخير في الأمل أصل الشجاعة والإقدام في الرجل
5ـ لا بد من بعث الأمل في الأمة، وأن يُفتح لها نافذ من النور حتى لا يقتلها الظلام. بينما الصحابة y يحفرون الخندق إذ عرضت لهم شديدة، فجاءوا إلى رسول الله r فأخبروه، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، قال الراوي {قد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً} فأخذ النبي r المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر أضاء هذا الجو الداكن وهو يقول: الله أكبر: أُعطيت مفاتيح الشام، واللهِ إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، واللهِ إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللهِ إني لأبصر قصر صنعاء من مكاني الساعة!! ولما بلغه خبر نقض يهود بني قريظة العهد قال {أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره} أُدخل شيخ الإسلام ابن تيمية السجن فماذا كان السجن عنده؟! هل تأزمت نفسيته وتدهورت حالته؟! لقد تعامل معها وهو صاحب القلب الموصول بالله بطمأنينة وثبات، فتحوّل السجن في حقه إلى خلوة يأنس بها، لقد قال والسجَّان يغلق عليه الباب )فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ( ثم قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!! وكان يقول في محبسه بالقلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.