1- الحديث في يومنا هذا عن الفتن؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستعاذة بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ في الحديث {اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفَّني غير مفتون} وفي القرآن الكريم تحذير من الفتنة أيما تحذير حتى جعلها ربنا سبحانه أعظم من القتل وأكبر؛ يقول تعالى: ((وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) ولا ينبغي لعبد أن يقول: أنا آمن من الفتنة؛ فمن أراد الله فتنته فتنه، والمفتونون هلكى لا محالة: يقول تعالى: ((وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) والنبي صلى الله عليه وسلم فضَّل الموت على الفتنة؛ ففى الحديث: {اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير له من الفتنة} ولو كانت الفتنة قاصرة على أهلها الوالغين فيها الساعين في إيقاد نيرانها لهان الخطب؛ لكن المصيبة كل المصيبة أنها تعم وتطم؛ فلا تدع بيتاً إلا دخلته ولا قلباً إلا أفسدته، إلا من رحم الله عز وجل؛ يقول تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)) وفى الصحيحين: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: {نعم؛ إذا كثر الخبث}
وقد كثرت الفتن في زماننا هذا وعظمت، واختلطت على كثير من الناس والتبست؛ فاضطربت الأمور، واختلت الموازين، وتوترت الدخائل، وانتشرت الشائعات، وتعددت الرايات، وأعجب كل ذي رأى برأيه: الخبير والرويبضة، الأمين والخائن، من يُعرف ومن لا يُعرف!
2- ومعلوم بالتجارب الإنسانية أن الأمة لو دخلت سبيلاً من هذه السبل الوعرة فربما ظلت فيه أربعين سنة تتيه في الأرض، أو أربعمائة، أو أكثر؛ لسيطرة الأهواء، والموازنات، والأفكار المريدة غير الحميدة، ولا المفيدة إلا لأصحابها في هذه العاجلة! وهذا النوع من الفتن شرٌّ كامنٌ غافٍ، ينبغي ألا يُحرَّك ولا يثار، محافظة على الأمة وعافيتها، فقد ورد في آثار ضعيفة: {الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها} وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الفتن ستكثر كلما مضى بالناس زمان؛ في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: {إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذهِ}
3- حديث القرآن والسنة عن الفتن يتضمن حدوداً ومعالم:
- اجتناب الفتنة علامة السعادة والخيرية؛ ففي الحديث: {إن السعيد لمن جُنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلى فصبر فواها!}
- لزوم اعتزال الفتن التي لا يتضح فيها وجه الصواب، والحق من الباطل؛ ففي الحديث: أن رجلين أتيا ابن عمر فقالا: إن الناس ضيَّعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرَّم دم أخي، فقال: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}. فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله!
- الاستمساك بالأصول الصحيحة عند البلاء: في الحديث: (إنها ستكون فتنة. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنع؟ قال: ترجعون إلى أمركم الأول}
- ينبغي أن تتحد قلوب أبناء الأمة، ولا يسقطوا في فخاخ الانقسام: يقول تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض؛ ِإلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}
- الطامعون في الحكم (أئمة الفتنة) بلاء على الأمة: دخل رجل على عثمان، وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلى لنا إمام فتنة، ونتحرج؟ فقال: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم)
- من الناس من يفتن نفسه، ويصير فتانًا: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وقال تعالى: {….. ينادونهم ألم نكن معكم؟! قالوا: بلى؛ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ، وَتَرَبَّصْتُمْ، وَارْتَبْتُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} وهناك عشاق للفتن، إذا قاموا من فتنة ارتكسوا في غيرها: يقول تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}
- المؤمن لا يتورط في فتنة المؤمنين بالخلاف، ولا فتنة الكافرين بالنموذج السيئ: يقول تعالى {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا)) ويقول: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
- المخادعون ولابسو الأقنعة من أسوأ أهل الفتنة: في الحديث: (يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب! يقول الله تعالى: أبىّ يغترون؟ أم علىّ يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران)
- من علامات ظهور الفتن: في الحديث: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة، يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يومًا قيل: هذا منكر؟! قيل: ومتى ذلك؟ قال، إذا قلت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة!)
- رفض الفتنة واجتناب أسبابها: في الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب وهو يقول: (لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل السكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا!)
- مخالفة أمره سبحانه وهديه صلى الله عليه وسلم من أكبر أسباب الفتنة الخاصة والعامة: يقول تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}
- من الفتنة ضرب الدين بعضه ببعض، واجتزاء النصوص، والتلبيس بها على العامة: في الحديث: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم)
- النفاق أسوأ أشكال الفتنة العامة: يقول تعالى عن سلوك المنافق ابن شريق: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني.. ألا في الفتنة سقطوا}
- المال من الفتنة العامة: في صحيح الجامع عن سيدنا كعب بن عياض رضي الله عنه، مرفوعًا: {إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال}
الخطبة الثانية
قد أطلت السنة الميلادية برأسها، وتبارى أهل النفاق في الإعلان عن حفلات الفسق والفجور، وامتلأت شوارع الخرطوم وغيرها بصور المغنين والراقصات من داخل البلاد وخارجها؛ وكأن القوم لا يعون إلى ساعتنا هذه أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا ارتفع إلا بتوبة، وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، قد أرانا الله آياته في طواغيت ومجرمين قد أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وسلط عليهم سيف انتقامه وأراح البلاد والعباد من شرورهم، ومع ذلك ما ذكرناه ولا شكرناه، بل كفرنا نعمته وعصينا أمره، قد كان حرياً بنا رعاة ورعية أن نوحد الله ونشكره ونحمده ونستغفره، ونجدد له توبة، لكن هيهات هيهات، فقد أقيمت الحفلات وهيئت المهرجانات بحضور بعض الولاة وتشجيعهم على ذلك المنكر وتهيئتهم الأسباب لمواقعته، بعدما سمعنا كلاماً معسولاً كثيراً عن شريعة ستطبق وأحكام ستنفذ ودين ستعلو رايته؛ لكننا إلى الآن نعتبر هذا هراء ومواعيد عرقوب لا تقدم ولا تؤخر؛ فإن الله تعالى خاطبنا جميعاً بقوله ((لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) يا عباد الله: إن صناع الفتنة متربصون، وهم على خبالنا حريصون؛ فليُحذروا: يقول تعالى ((…..وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ))