الحرية حق مكفول لجميع الناس, فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان ومنحه حرية اختيار العقيدة والدين وحرية التعبير عن الرأي وحرية التصرف, قال تعالى )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا( وقال مخاطباً نبيه محمداً r )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(
عن أنس بن مالك: كنا عند عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – إذ جاءه رجل من أهل مصر، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بِكَ، قَالَ: وما لك؟ قَالَ: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام مُحَمَّد بن عمرو فَقَالَ: فرسي ورب الكعبة؛ فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة فَقَامَ إليَّ فضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين. فوالله ما زاده عمر على أن قَالَ له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل معك بابنك مُحَمَّد؛ فدعا عمرو ابنه فَقَالَ: أأحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ قَالَ: لا، قَالَ: فما بال عمر يكتب فيك. فقدم على عمر؛ فو الله إنا عند عمر حتَّى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فَقَالَ: أين المصري؟ فَقَالَ: ها أنا ذا،قَالَ: دونك الدرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين، فضربه حتَّى أثخنه.ثم قَالَ: أجلها على صلعة عمرو! فو الله ما ضربكَ إلا بفضل سلطانه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، قَالَ: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتَّى تكون أنت الَّذِي تدعه، أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً ثم التفت إلى المصري، فَقَالَ: أنصرف راشداً، فإن رابكَ ريب فاكتب إليَّ.
إن الله تعالى يريد لعباده أن يكونوا أحراراً حقيقة، ولهذا أمرهم بعبادته التي خلقهم لأجلها، وشرع لهم من صنوف العبادات ما يساعدهم على الوصول إلى هذه الغاية المطلوبة، والأمنية المرجوة؛ ولنضرب لذلك أمثلة:
ففي الصلاة التي هي عمود الإسلام وركنه الركين يتحرر المؤمن من سلطان النوم فيصبح هو الذي يتحكم فيه لا العكس، مع أن النوم حاجة فطرية لا يصمد إنسان أمام هجومه وإلحاحه إلا لوقت معلوم، لكن المؤمن المقيم للصلاة والمحافظ عليها ينفلت من نومه وينخلع من فراشه وراحته مستجيباً لنداء ربه، فيؤدي ما أوجبه الله عليه من الفريضة في رغبة ومحبة وانشراح صدر وطيب نفس، بل لا راحة له في غيرها، ولا قرار له في سواها، كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم {أرحنا بها يا بلال} وقوله {وجعلت قرة عيني في الصلاة}.
وفي الزكاة يتحرر المؤمن من رق المال، الدرهم والدينار ونحوهما؛ فهو يقتطع من ماله وكسب يده جزءاً معلوماً يصل به المحرومين وأصحاب الحاجات، طيبة بذلك نفسه، وطالباً تطهير ماله وصونه عن الآفات، وساعياً لتنميته وزيادته بالبركة، وبانفتاح أبواب من الرزق لم يكن يحتسبها، وفي الحديث {ما نقص مال عبد من صدقة} وفي الحديث الآخر {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش}
وفي الصيام يتحرر المؤمن من قيود الطعام والشراب وشهوة الجماع مع أنها حاجات فطرية ليس في وسعه أن يستغني عنها مختاراً، فضلاً عن كونها أشياء مباحة وطيبة ونافعة، لكن المؤمن يترك ذلك كله من بزوغ الفجر إلى مغيب الشمس طيلة شهر بأكمله طاعة لله تعالى وإيماناً به واحتساباً للأجر والمثوبة.
وفي هذا تربية عظيمة، ودربة رائعة، وذريعة لطيفة لترك الحرام الخبيث الضار من الأطعمة والأشربة والشهوات، وهي التقوى التي شرع الصيام وغيره من العبادات لتحقيقها )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(، وفي الحديث {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} فالصوم عن المحرمات والخبائث والمفاسد أوْلى من الصوم عن المباحات والطيبات والمنافع، وهكذا يتحرر المؤمن من وطأة العادات الضارة.
وفي الحج يتحرر الإنسان من رق العادة؛ حيث يترك ما اعتاده من أساليب في الحياة من طعام وشراب ولباس ونوم، وأعمال وأشغال، وبقاء لدى الأهل والأولاد والأصدقاء ونحوهم من زملاء العمل أو الدراسة وغير ذلك مما يشق عادة تغييره أو مفارقته إلا بنوع كلفة، لكنه في الحج يترك ذلك كله طاعة لله، فيخرج الناس تاركين دورهم وما اعتادوه ، إلى بيت الله الحرام، راجلين وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ولهذا سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الحج جهاداً، لكن لا قتال فيه.
ثم تأتي أعظم عبادة وأسماها ألا وهي الجهاد في سبيل الله بالنفس؛ فالنفس أغلى ما يملك الإنسان؛ فهو يحرص عليها كل الحرص، ويجتهد في صونها عن الآفات والتلف، لكن المؤمن يعتبر تقديمها في سبيل الله ذوداً عن حياض الإيمان والأوطان إحياء لها، وتخليداً لذكراها، ورفعة لدرجتها )وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(
وفي نوافل هذه العبادات مجال للاستزادة والترقي في مدارج الحرية ومقاماتها، حتى يصل إلى ذروتها ويعتلي سنامها، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}
وهكذا سائر العبادات في الإسلام تدرب المؤمن على التحرر الحقيقي، وتسعى به لنيل الحرية الصادقة، فلا أحد يتحكم في حركته ومسار حياته إلا إيمانه بربه وخالقه، لا سلطان نوم، ولا سلطان طعام وشراب، ولا سلطان شهوة ومال، ولا سلطان عادة؛ فهو عبد لله وكفى، وسيِّد متصرف في احتياجاته كلها )ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(
فالحرية إذن مطلب لا يختلف فيه اثنان, ولا يتناطح عليه عنزان؛ إلا أن تلك الحرية لا تؤتي ثمارها الحقيقة إلا في ظلال الممارسة الصحيحة لها. بما لا يتعارض مع الدين. أو الأخلاق. أو قوانين الدولة. أو حقوق الآخرين وحرياتهم, وكما قيل: إن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين, فلا تعني حرية الرأي ما يذهب إليه بعض الناس من أن يعلن إلحاده، ويهاجم العقيدة الإسلامية، بحجة تحرير الفكر من الجمود أو الخرافة أو الطغيان، وليس للكاتب أو الأديب أن يفهم الحرية بأن يقول ما يقول؛ فالحرية تُمارس لكن في إطار النظام العام وميزان الشريعة.
ولا تعني الحرية التعدي على ثوابت الدين ومسلمات الشريعة’ قال الله تعالى: )وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ(
ولا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام للحرية في:
- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.
ب ـ ألا تفوت حقوقاً أعظم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
ج – ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.
فالحرية الشخصية تتضمن شيئين:
أولاً: حرمة الذات: وذلك بعدم الاعتداء عليها , قال تعالى: )مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(
ثانياً: تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد وأمنه في نفسه وعرضه وماله: عنْ أَبِى سَعِيدٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلاَ إِنَّ أَحْرَمَ الأَيَّامِ يَوْمُكُمْ هَذَا, ألا وَإِنَّ أَحْرَمَ الشُّهُورِ شَهْرُكُمْ هَذَا, ألا وَإِنَّ أَحْرَمَ الْبِلاَدِ بَلَدُكُمْ هَذَا, أَلاَ وَإِنّ َدِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ, عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هَذَا, أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا نَعَمْ, قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.أخرجه أحمد.
ومن هنا فقد شدد الإسلام على حرمة المجاهرة بالمعاصي, والعمل على إشاعة الفاحشة في المجتمع؛ لأن ذلك فيه لون من ألوان التعدي على حرية الآخرين, قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ أمتي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ.رواه البخاري ومسلم