1/ الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لنا ديناً قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} وأشهد أن سيدنا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ عليه وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ثم أما بعد.
2/ فإن الله تعالى قد شرع الزواج رحمة بالناس ولطفاً، وامتنَّ عليهم بذلك في كتابه فقال {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون} وقال {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} وجعل هذا الزواج سبباً لإعفاف الفرج وإغناء النفس وقضاء الوطر، وحفظ النوع وحصول التعارف والتآلف ونشوء المودة والرحمة، وأوجب علينا أن نرعى هذه النعمة ولا نكفرها، وأن يعامل كل من الزوجين صاحبه بما يرضي ربه جلَّ جلالـه من قيام بالحقوق وأداء للأمانات؛ قال تعالى {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة}
3/ إن الناظر في أحوال الناس يجد بيوتاً تتهدم وأسراً تتشرد وعداوات تستعر وبغضاء تنتشر بسبب خلافات زوجية تفضي بالناس إلى إيقاع الفرقة وحصول الطلاق؛ حتى إنه ما يكاد يمر يوم إلا ويأتي عدد من السائلين طارقين أبواب الفتوى ملتمسين مخرجاً لحالات تستعصي على العلاج؛ فما هو سبب ذلك كله؟ وما الذي يؤدي إليه؟ ألا فاعلموا أن الطلاق – وإن كان حلالا – فإنه بغيض إلى الله تعالى، وهو من تزيين الشيطان. الحديث رواه أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، والحاكم، وغيرهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا الحديث روي مرفوعاً متصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروي مرسلاً، والصواب أنه مرسل عن محارب بن دثار، لا يذكر فيه ابن عمر رضي الله عنه، وهذا ما رجحه جماعة من أئمة الحديث، كـأبي حاتم الرازي، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، والألباني، وغيرهم، ولكن يغني عن هذا الحديث في تقبيح الطلاق وتشنيعه من غير سبب ولا حاجة ما رواه مسلم في صحيحه، في كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم -أي: من جنود إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول له: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت -وفي رواية- فيلتزمه) أي: يضمه إليه ويعانقه.
4/ الطلاق ليس بالضرورة شراً محضاً على المرأة، بل قد يكون خيراً لها وللرجل في حالات كثيرة، وقد يكون نجاةً لها من وضع اجتماعي لا تطيق الصبر عليه، أو من زوج ظالم لا يحترم لها حقاً، ولا يرعى لها حرمةً ولا كرامةً، أو من زوج فاجر لا يخاف الله تعالى ولا يرجوه، فجواره شؤمٌ، وفراقه خير وبر، أو حتى من زوج كتب الله بغضه في قلبها؛ فهي لا تطيقه بحال من الأحوال. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة طلبت الطلاق، أو سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) ولا شك أن هذا الحديث صريح في تحريم أن تسأل المرأة زوجها أن يطلقها من غير سبب، ولا شك أن بغض المرأة زوجها بغضاً يحول بينها وبين القيام بحقوقه، والوفاء بحاجاته الشرعية، أن هذا سبب وجيه لطلب الطلاق.
ولهذا لما اختلعت حبيبة بنت سهل الأنصارية من زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام – وكانت تبغضه – فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها، وقال: (خذ الحديقة وطلقها تطليقة) وكان رجلاً دميماً، ولكنه كان خطيباً مفوَّهاً جهير الصوت، وكان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، شهد معركة أحد وبيعة الرضوان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ولما قدم وفد تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، افتخروا بأمور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {قم فأجبهم}
فقام وتكلم بكلام قوي، فسُرَّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بنو تميم: والله لخطيبه أحسن من خطيبنا، وشاعره – يعنون حسان بن ثابت – أحسن من شاعرنا، وقد استشهد هذا الرجل النبيل الفاضل، في معركة اليمامة، في قصة طويلة عجيبة ذكرها أهل السير المهم أن زوجته طلبت منه المخالعة وردت إليه ما أعطاها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقصته مع زوجته قصة صحيحة، رواها مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم، وإسنادها صحيح.
ومن هنا ندرك الخطأ الذي يقع فيه البعض، حين يقول مثلاً: الطلاق ظلم للمرأة، بل إنني أعرف حالات كثيرة، أصبح الطلاق فيها مطلباً ملحاً تحاوله المرأة، ولكن يحول بينها وبينه رجل ظالم متلاعب محتال، يلعب بها يمنة ويسرة ويحتال عليها، فلا تستطيع أن تثبت عند القاضي ما يدعوه إلى إلزام زوجها بالطلاق، مع أن المرأة مستعدة أن تفتدي نفسها من زوجها بالغالي والنفيس، وكما قيل:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
5/ إن الإسلام قد حفظ الحقوق، ونظم العلاقة بين الزوجين، ووضع الضوابط الكثيرة لاستمرار الحياة الزوجية:
أولاً: شرع الإسلام التسامح بين الزوجين، وتغافل كل منهما عما قد يبدر الآخر في حالة الغضب أو الانفعال أو غير ذلك، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو نموذج لمن تأدبوا بأدب الإسلام وتخلقوا بخلقه، وتربَّوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة السلام – أبطالاً في المعارك فقط، بل كانوا أبطالاً في كل حال، حتى إن الواحد منهم في معاملته مع أزواجه، كان نموذجاً للكمال والمروءة والرجولة وجميل الخصال، فـأبو الدرداء يقول لزوجته: (إذا رأيتني قد غضبت فترضيني، وإذا رأيتك أنا قد غضبت فإنني أترضاك، وإن لم نفعل فإننا لا نصطحب) فقال الزهري تعليقاً على هذا الخبر: وهكذا تكون الإخوان، تتحمل مني في حال الغضب، وأتحمل منك في حال الغضب.
وهذا ما شرعه الله تعالى في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فإن الإمساك بمعروف: هو الإحسان إلى المرأة، بتحمُّل ما قد يبدر منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: (لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) فقد تجد فيها نقصاً في جانب، يسدَّد في جانب آخر، أو تجد منها خلة في وقت، ولكن تجد منها في وقت آخر ما يغطي على هذا ويمسحه ويزيله. ومن أروع وأجمل النماذج في الإمساك بمعروف والتسامح بين الزوجين، ما جاء في قصة أم زرع، وقد روتها عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعقب عليها عليه الصلاة والسلام بقوله لـ عائشة (كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع، غير أني لا أطلق) جاء هذا في رواية.
فكيف كان أبو زرع لـ أم زرع؟ وكيف كانت هي له؟ تقول أم زرع – وهي المرأة الحادية عشرة من ذلك المؤتمر الذي عقد في الجاهلية – تقول في صفة زوجها وقد بدأت به وبحالها معه. فقالت: (أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إليَّ نفسي، وجدني في أهل غُنيمة بشق – أي أهلها كانوا فقراء معزولين – فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق – أي خيل وجمال وإبل وزرع وغير ذلك – فعنده أقول فلا أقبح – أي لا يقول: كلامك هذا غير جيد أو يرده عليها، بل يحسن لها ما تقول – أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، وآكل فأتمنح) فهو أعطاها كل ما تريد، من المأكل والمشرب، والراحة في بيتها، وتطييب خاطرها بالقول والفعل. لما ذكرت معاملتها له، وكلامها هذا بعد ما طلقها، قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟! منامه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟! طوع أبيها وطوع أمها، وغيظ جارتها، وملء إهابها – تصفها بالكمال في خلقها وجسمها وطاعتها لوالديها – جارية أبي زرع – خادمته – فما جارية أبي زرع قالت: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تملأ بيتنا تعثيثا، أي نظيفة وخدومة وأمينة على السر وعلى الكلام وعلى متاع البيت، حتى ذكرت ضيف أبي زرع، وهذا كلام امرأة تحب زوجها وتعلقت به، ولذلك فهي تثني عليه وعلى أمه وعلى ولده وعلى بنته وعلى خادمه وعلى ضيفه وعلى كل شيء. ثم ذكرت أن أبا زرع هذا، خرج يوماً والأوطاب تمخض، فرأى امرأة فأعجبته، فطلق أم زرع ونكحها، ثم تزوجت أم زرع بعده رجلاً آخر، فأعطاها من كل شيء من المال وغيره، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. أي أعطيهم، قالت: فوالله لو جمعت كل ما أعطاني، ما بلغ إناءً من آنية أبي زرع، لأنه كما قيل:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ عائشة: (كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع) أي: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسارع فيما تحب عائشة رضي الله عنها وتهوى، وكان يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول: (عائشة) فيقال: ومن الرجال؟ فيقول (أبوها)
ثانياً: شرع الإسلام للزوج حين يرى من زوجته ما لا يحب ولا يرضى، أن يعظها بالقرآن والحديث والتذكير، وبالأمر وبالنهي، وغير ذلك مما يكون فيه أمر لها وتذكير لها بما يجب عليها، كما قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فإن أجدى الوعظ كفى، وإن لم يجدِ الوعظ، فإنه يمكن أن ينتقل بعد ذلك إلى الهجر، يهجرها في المضجع ويعرض عنها، فإن لم يجدِ، فإنه يضربها ضرباً غير مبرح، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يجدِ ذلك، فإنه يمكن أن ينتقل إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}
إذاً يجب عدم إدخال أي طرف آخر، إلا حينما يتعذر الإصلاح عن طريق الزوجين فقط، فإذا لم يُجدِ الإصلاح بينهما عن طريق المناقشة، أو عن طريق الوعظ، أو عن طريق الهجر، أو عن طريق الضرب الغير مبرح، فحينئذٍ يمكن أن يدخلا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وإذا أراد هذان الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ولذلك يبقى الطلاق هو آخر الحلول، وآخر الدواء الكي.
فليس الطلاق كلمة تقال في لحظة انفعال أو غضب، فهذا لا يفعله عقلاء الرجال، ولكنه قرار مدروس محكم، يتخذه الزوج، بل ربما يتخذه الزوجان بالاشتراك بعد طول دراسة وتأني، ولهذا حرَّم الله تعالى – مثلاً – طلاق الحائض، وحرَّم أيضاً طلاق المرأة إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلا يحل للرجل أن يطلق امرأته إلا في طهر لم يجامعها فيه، وهنا لا يكون الرجل طلقها في ساعة انفعال، بل انتظر حتى تطهر – مثلاً – إن كانت حائضاً، أو حتى تحيض ثم تطهر إن كان جامعها في ذلك الطهر، ثم هو في الطهر قد يكون متطلعاً إليها، مشتاقاً إلى معاشرتها، فلا يوقع الطلاق حينئذٍ، وهنا يكون الطلاق حلاً لمشكلة قائمة، لا صبر لهما أو لأحدهما عليها.
قال الأصمعي: كنت أغدو إلى رجل من الأعراب؛ أقتبس منه بعض الغريب، وأسأله عن بعض الكلمات التي لا أعرف معناها، قال: وكان كثيراً ما يذكر عندي أمامة وهو اسم زوجته، فدخلت عليه مرات فوجدته لا يذكرها، فقلت له: رأيتك لا تذكر أمامة، فأنشأ يقول:
ظعنت أمامة بالطلاقِ ونجوت من غل الوثاق
بانت فلم يألم لها قلبي ولم تدمع مآق
ودواء ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق
والعيش ليس يطيب بين اثنين من غير اتفاق
لو لم أُرَحْ بفراقها لأرحت نفسي بالإباق
أي: لو لم أطلقها؛ لهربت من البلاد؛ لأن الحياة بينهما كانت أمراً صعب الاحتمال.
ومما يذكر في أخبار العجم: أن رجلاً منهم يقال له بولس طلق زوجته، وأراد بعض أصدقائه رده عن ذلك، وأثنوا عليها بأنها امرأة جميلة عاقلة ولود، فقال لهم: حذائي جديد، جيد الصنع، ومع ذلك فأنا مضطر إلى تغييره، ليس هناك أحد سواي يعلم أين يؤلمني بغض النظر عن هذه الكلمة، لأنها كلمة من رجل جاهلي، فلهذا لا غرابة أن يشبه المرأة بالحذاء، ولكنه أشار إلى معنى قد يوجد عند الكثيرين، وهو أنه يقول: هناك مشكلة قائمة بيني وبين زوجتي، هذه المشكلة من الصعب أن يدركها الناس؛ لأنها قضية دقيقة خفية، لا أحد يعرف من أين يأتيني الألم!
6/ والطلاق من حيث حكمه في الإسلام، تجري عليه الأحكام الخمسة؛ فقد يكون مندوباً؛
فكأن لا تكون الزوجة طيبة الخلق عفيفة، أو يخافا ألا يقيما حدود الله. أما الطلاق المباح، فهو عند الحاجة؛ لسوء العشرة أو للتضرر بذلك. أما الطلاق المكروه، فهو: ما كان لغير سبب، مع استقامة الحال، وحسن الأمور، وطيب العلاقة بينهما فلا شك أن هذا مكروه، ولا أدل على كراهيته من فرح الشيطان به كما سبق، وكما أسلفت في تلك الطرفة، أن رجلاً طلق امرأته بعد خمسين سنة، فقالت له: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: والله ما لك عندنا ذنب غير هذا! ولا شك أن هذا ليس من الوفاء، وليس من شيم الرجال، فجدير بالرجل أن يحفظ مكانة زوجته وقدرها ولو كبر سنها، فإن المرأة بعد هذا السن الطويل، يكفيها أن تكون في البيت أماً أو حتى جدة؛ يؤخذ رأيها في المنزل، وتصبَّح بالخير وتمسَّى به، وتسمع من طيب الكلام وجميل الحديث ما يحفظ لها كرامتها وإنسانيتها، ويجعلها تعيش في عز وأمن وكرامة، وهذا هو اللائق بالبيوت التي بنيت على كلمة الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم – أي: أسيرات – أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بشريعة الله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. أما الطلاق الواجب: فهو في مثل ما ذكر بعض الفقهاء، إذا حكم الحكمان كما قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} ورأيا أن الحياة بينهما مستحيلة، وأنها ضارة لهما شرعاً وديناً، أو حتى دنيا، فحكما بالفراق. ومثله المولي كما يقول تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فلو حلف ألا يأتي امرأته، ثم أصر على ذلك، ورفض فيئة إليها بعد التربص أربعة أشهر؛ فإنه يجب عليه حينئذ أن يطلقها. وأما الطلاق المحرم فهو الطلاق البدعي؛ أن يطلقها وهي حائض، وهذا لا يجوز، أو يطلقها في طهر قد جامعها فيه أيضاً فهذا لا يجوز. أما إن كانت حاملاً فإنه يجوز له أن يطلقها بكل حال. ومثله أيضاً: أن يجمع للمرأة عدة طلقات، يطلقها مرتين أو ثلاثاً في مجلس واحد أو في طهر واحد، فهذا لا يجوز، ولذلك يقال: إن رجلاً من الأعراب جاء إلى ابن عباس فقال له: إني طلقت -وكان غاضباً يتطاير الشرر من عينيه- فقال له: إني طلقت امرأتي مائة طلقة، فماذا ترى يا ابن عباس؟ فرأى ابن عباس أن هذا الرجل غاضب، وأنه يخشى منه شراً، فقال له: عندي لك رأي. قال: ما هو؟ قال: أنا أسامحك عن سبع وتسعين طلقة، واذهب إلى غيري ليفتيك في أمر الثلاث الباقيات، وما ذلك إلا لأن السبع والتسعين أصلاً هي عبث ولغو لا قيمة لها، فحلله منها ابن عباس جزاه الله خيراً، أما الثلاث الباقيات التي عليها الكلام، فقال له: اذهب إلى غيري. وقيل لابن عباس أيضاً: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كواكب الجوزاء، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي: الطلقة الأولى طلقة رجعية، والطلقة الثانية رجعية، ثم بعد ذلك ما هناك إلا أن يمسكها بإحسان ومعروف، أو يسرحها بإحسان ومعروف أيضاً، {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وهذه هي الطلقة الثالثة، ولما طلق عبد الله بن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه وأمره أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يطلقها فليطلقها في طهر لم يجامعها فيه.