أيها المسلمون عباد الله: فإن الله تعالى خلقنا في هذا الكون لعبادته، وعمارة الأرض بطاعته، كما قال سبحانه {ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ^ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ^ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة؛ وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة قبل وفاته بإحدى وثمانين ليلة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وإن المسلم حقاً هو المستسلم لله تعالى في شأنه كله، المحكِّم له في جميع أحواله، الخاضع له في أمره ونهيه؛ كما قال سبحانه { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وكما قال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}
أيها المسلمون: إن تحكيم الشريعة في حياة الناس هو مطلب الشرفاء، وهدف المؤمنين الأتقياء – حكاماً ومحكومين – إذ لا خيار لهم إلا ذلك، ولا هدف أسمى في حياتهم، يسعون لتحقيقه، ويجاهدون لتنزيله، من أن يروا شريعة الله حاكمة؛ وقوانينها مطبقة، وآدابها سارية، فتلك غاية الغايات وأنبل المقاصد وأنظف الرايات؛ ليقينهم بأنها قد حوت الكمال كله، والخير كله، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن المسلمين ما يحتاجون معها إلى غيرها؛ قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقد علم الناس أن في شريعة الإسلام أنظمة اجتماعية وأخرى اقتصادية وثالثة جنائية ورابعة للسياسة الشرعية، مع ما فيها من تنظيم لعلاقة الإنسان بربه وبأخيه الإنسان، وهي شريعة مرنة سهلة رفع الله عنا فيها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وفيها قدرة على مواجهة النوازل والتكيف مع الحوادث
أيها المسلمون: إن إيماننا لا يكمل وديننا لا يصح إلا إذا رضينا بأن تكون شريعة الله تظللنا، وأحكام الله تعلونا؛ وقد نطقت بذلك آيات القرآن الكريم؛ فقال سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعليه فليتوكل المتوكلون}، وقوله سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}، وقال سبحانه {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال سبحانه مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وقال مخاطباً إياه {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقد نعى ربنا جل جلاله على ناس يريدون تنحية أحكام الله جانباً فقال عنهم {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}، أَنَّ مُتَّبِعِي أَحْكَامِ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا ذَبِيحَةُ اللَّهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِطَاعَتِهِمْ، وَهَذَا الْإِشْرَاكُ فِي الطَّاعَةِ، وَاتِّبَاعِ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}، أَيْ: مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، أَيْ: وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ تَشْرِيعِهِ، وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُطَاعُونَ فِيمَا زَيَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي شُرَكَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ بَالِغَةٌ مِنَ الْكَذِبِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَجَبُ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ: أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ مُخَالَفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَعْمَاهُ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ مِثْلَهُمْ.
إَنَّ اللَّهَ – جَلَّ وَعَلَا – بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَهُ، فَعَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ هذه الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ وَيُقَابِلَهَا مَعَ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْمُشَرِّعِينَ لِلْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَيَنْظُرُ هَلْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ صِفَاتُ مَنْ لَهُ التَّشْرِيعُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ – وَلَنْ تَكُونَ – فَلْيَتَّبِعْ تَشْرِيعَهُمْ. وَإِنْ ظَهَرَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَحْقَرُ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ وَأَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَقِفْ بِهِمْ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَلَا يُجَاوِزْهُ بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ أَوْ مُلْكِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي أَوْضَحَ بِهَا – تَعَالَى – صِفَاتِ مِنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالتَّشْرِيعُ قَوْلُهُ هُنَا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا صِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ: )ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ^ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ^ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ لِلنُّظُمِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ – أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُخْتَرِعُهُمَا – عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لِلْبَشَرِ أَزْوَاجًا، وَخَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ الثَّمَانِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ – تَعَالَى -: )ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ(، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَأَنَّهُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ – أَيْ يُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ – وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تَتَفَهَّمُوا صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُشَرِّعَ وَيُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَلَا تَقْبَلُوا تَشْرِيعًا مِنْ كَافِرٍ خَسِيسٍ حَقِيرٍ جَاهِلٍ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ – تَعَالَى – )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(، فَقَوْلُهُ فِيهَا: )فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ( كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ: )فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ( وَقَدْ عَجِبَ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ: )فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه( مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمُحَاكَمَةَ إِلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالطَّاغُوتِ، وَكُلُّ تَحَاكُمٍ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ فَهُوَ تَحَاكُمٌ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ – تَعَالَى -: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا( فَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ الَّذِي صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ – شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَهُ – تَعَالَى – فِي قَوْلِهِ: )فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى( فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِهَا فَهُوَ مُتَرَدٍّ مَعَ الْهَالِكِينَ .
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِإِحَاطَةِ سَمْعِهِ بِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ وَبَصَرِهِ بِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ؟ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ دُونَهُ مِنْ وَلِيٍّ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(. فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ؟ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؟ وَأَنَّ الْخَلَائِقَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؟ تَبَارَكَ رَبُّنَا وَتَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ أَنْ يُوصَفَ أَخَسُّ خَلْقِهِ بِصِفَاتِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ – تَعَالَى – )ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ( فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ النُّظُمَ الشَّيْطَانِيَّةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ فِي أَعْظَمِ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ؟
سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِكَ وَجَلَالِكَ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ^ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ^ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ^ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(. فَهَلْ فِي مُشَرِّعِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّفُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَعَظَمَةَ إِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ. سُبْحَانَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ – جَلَّ وَعَلَا – أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حُكْمِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ أَوْ مُلْكِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ هِيَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ( فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ ، وَتُفَوِّضَ الْأُمُورُ إِلَيْهِ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ^ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى؟ وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ أَصَابَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ؟ لِأَنَّ الذُّنُوبَ لَا يُؤَاخَذُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ( فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ الْحَقَّ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ^ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا( فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، الَّذِي يَشْهَدُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، وَبِأَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا – أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ – وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا، مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَجَلَّ شَأْنَهُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ( فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الرِّزْقَ لِلْخَلَائِقِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مَنْ خَلَقَ الرِّزْقَ وَأَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟ سُبْحَانَهُ – جَلَّ وَعَلَا – أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(.فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ؟ سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم( فَقَدْ أَوْضَحَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرَ مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ إِنَّمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ، لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَرُوهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ، وَأَنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي بُعْدِ صِفَاتِهِمْ مِنْ صِفَاتِ مَنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – تَعَالَى -: )قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ(. فَقَوْلُهُ: هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ صِيغَةُ تَعْجِيزٍ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ بَيَانِ مُسْتَنَدِ التَّحْرِيمِ. وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ التَّحْلِيلِ وَلَا التَّحْرِيمِ. وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيعُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ – شَرْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً – مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ – كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ – كَانَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُشَرِّعَ رَبًّا، وَأَشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ
أيها المسلمون: إننا نذكركم – في هذه الأيام – بصفحات من تاريخ هذه البلاد المعاصر، والذي ينبئنا أن أعداء الله عز وجل يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويمكرون المكر الكبار بالليل والنهار، ويمنُّون أنفسهم بيوم تسقط فيه راية الشريعة ويرضى المسلمون بالدنية في دينهم؛ وقد شنوا حرباً عسكرية ضروساً استمرت عقدين من الزمان؛ مستعينين بحركة التمرد الصليبية وقادتها الخونة، وقد شاء ربنا أن يخزيهم ويفل كيدهم ويبطل مكرهم )وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا( ولما يئسوا من روح الله في أن يحققوا انتصاراً في أرض المعركة، لجئوا إلى سبيل المفاوضات متبعين أساليب الترغيب والترهيب؛ فبذلوا الوعود والأماني لأهل الحكم؛ حالهم كحال الشيطان )يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا( بأن السودان سترفع عنه العقوبات الاقتصادية، ويُمحى اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ويُعاد إلى منظومة المجتمع الدولي؛ إلى آخر تلك الأماني التي لم يمض إلا وقت يسير حتى اكتشف الناس أنها )كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ( أو )كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا(
أيها المسلمون: وقِّعت اتفاقية السلام تحت الضغط والإرهاب والتضييق، وتهللت تلك الوجوه الكالحة التي طالما ضاقت ذرعاً بالإسلام وأهله، واشمأزت من ذكر الله؛ فمنَّوا أنفسهم بردة سريعة تَرجع بالناس إلى عهود التيه والظلام حيث كان الخمر مبذولاً والزنا متاحاً وسبُّ الدين يُسمع من غير نكير، واستبشروا بعودة قائد التمرد الصليبي العنصري، ودُبِّجَت القصائد في مدحه والثناء عليه، وكانوا كما قال ربنا )فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ( حتى ظن بعض الأغرار أن هذا القادم إنما هو صلاح الدين أو سيف الدين أو عز الدين؛ ومنَّى الخبيث نفسه بأن يحكم البلاد والعباد، وقد مهَّد له الطريق إخوانه في الكفر من المنافقين ودعاة العلمنة؛ لكن كان الحال كما قال ربنا )وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ^ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ^ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ^ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ( حيث أخذ الله الخبيث أخذ عزيز مقتدر؛ وما تركه يهنأ بما هيأ له نفسه سنين عدداً، وسفك من أجله الدماء وأزهق الأرواح؛ وصدق الله العظيم )إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ( فشاهت وجوه المنافقين وأرغم الله أنوفهم بهلاك سيدهم، وذهبت آمالهم أدراج الرياح )فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(
إن اتفاقية السلام التي أبرمت بين الحكومة والمتمردين ما كانت خيراً محضاً ولا خيراً راجحا؛ ولا كانت عن إجماع من المسلمين، بل عارضها ناس ـ من أهل الحل والعقد ـ لما حوت من ثغرات وعيوب، ولما بدا فيها من تنازلات طالما استعصى على الناس القبول بها، لكن قيل في ذلك الوقت بأن أعظم مكاسبها إقرار الشريعة في الشمال بموافقة من رعوا تلك الاتفاقية من رؤوس الكفر وصناديد السياسة العالمية، وبُذلت الوعود بأن تُحفظ حقوق إخواننا المسلمين في الجنوب، وأن تُفتح الأبواب للدعوة إلى الله هنالك وأن تُرصد لها ميزانيات وتُفرَّغ لها جهود، ولكن هيهات هيهات، ما كان شيء من ذلك، بل حورب الإسلام في الجنوب وصودرت المؤسسات الإسلامية ـ كديوان الزكاة وجامعة القرآن والبنوك الإسلامية ـ بل حورب الحجاب وضُيِّق على المسلمين؛ بل قُتل بعضهم واعتقل آخرون وأحرق فريق ثالث بالنار تحت سمع الدنيا وبصرها، بل أكثر من ذلك غلقت مساجد في أرض الجنوب، وسعى قادة التمرد الذين عادوا للتو من الغابة إلى تمتين صلاتهم وتقوية علاقاتهم بكل عدو لهذه البلاد، وصدرت من رؤوسهم كلمات تشي بالحقد الدفين على أهل هذه البلاد ودينهم، وكانت الصدور تتسع لهذا كله على أمل أن تذهب الأيام غائلة الصدور، ولكن هيهات هيهات فالقوم لا يزيدهم الحلم إلا جهلا، وكانت أولى البوائق حين عارضوا ـ بلسان بعض المنافقين من أهل الشمال ـ كتابة البسملة في صدر الدستور، وأخيراً انفصل الجنوب وذهب بخيره وشره وحلوه ومره، وبعد هذا كله نسمع أصواتاً منكرة سمت نفسها قوى الإجماع الوطني تدعو إلى تنحية الشريعة وإقرار العلمانية، ولربما حاول بعض من في قلوبهم مرض أن يمالئوهم على هذا الباطل، ويروجوا على الناس هذا المنكر.
أيها المسلمون عباد الله: إن القلوب التي تخفق بحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والتي طالما تاقت إلى أن ترى حكم الله يسود وشرعه يعلو لا يمكن بحال أن ترضى بمثل هذا، وإن سؤالاً لا بد أن يوجَّه إلى أهل الحكم عندنا: أترون تلك الدماء الزكية التي نزفت وأرتال الشهداء الذين صعدت أرواحهم إلى الله تعالى، أترون ذلك كله كان من أجل دنيا أو منصب أو جاه؟ اللهم لا. أترونهم قدَّموا نفوسهم الزاكية رخيصة في سبيل الله من أجل شوارع تُعبَّد أو سدود تنشأ أو جسور تُشاد؟ اللهم لا. أترون أولئك الشباب والشيوخ الذين جاهدوا في الله حق جهاده يرضون بأن ترضخ القيادة لأهل النفاق تحت دعوى الإجماع الوطني فتمحو القوانين الشرعية طائعة مختارة؟ اللهم لا. بل إن الأصوات التي منحت لرئيس الجمهورية في الانتخابات الأخيرة والبيعة التي نالها ما كانت إلا ليقيم فينا شرع الله كله؛ فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الحلال ويحرم الحرام؛ كما قال سبحانه {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}
إن واجباً على قادة هذه البلاد أن يعلموا أنهم إنما يستمدون مشروعية دولتهم من تمسكهم بالإسلام لا من شيء سواه، وليعلم الجميع أن شريعة الله ليست كلأ مباحاً ولا ملكاً لشخص ما يتنازل عنها متى ما أراد، وعليهم أن يستعيدوا التاريخ قديمه وحديثه ليروا كيف كان عاقبة من بدَّلوا وغيروا؛ ومن رقعوا دنياهم بتمزيق دينهم؛ فلا دينهم بقي ولا ما رقعوا، بل ذهبوا مشيعين بالغضب من رب العالمين واللعنات من المؤمنين.. ألا يا كل مخلص اعلم أن لك أسوة في الصديق أبي بكر رضي الله عنه الذي حفظ الدين بعد وفاة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم وردد بلسان اليقين (أيُنقص الدين وأنا حي؟)
إننا نذكر جماهير المسلمين – حكاماً ومحكومين – بجملة من الأمور التي ينبغي أن نعيها جيداً، وننطلق من الإيمان الراسخ بها، ومن ذلك:
أولاً: أن الدين مقدَّم على كل شيء؛ فالحفاظ عليه أولى الأولويات، وتطبيق أحكامه أعظم المهمات، ومن أجل ذلك خُلقنا ومن أجله نبقى؛ فإذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا حياة لمن لم يحي دينا، ومن أجل الدين تذهب النفوس والأموال والأعراض؛ بل إن الجهاد ما شرع إلا لحفظ الدين )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله(
ثانياً: أن في تطبيق الشريعة ـ بأحكامها الكلية وآدابها المرعية ـ حفظاً لحقوق الناس كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ فليس في الشريعة ضيم ولا ظلم، بل شريعتنا هي العدل المطلق والحق الأبلج؛ وإننا لنقرأ في القرآن )ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( ونقرأ في القرآن )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين( وها هم غير المسلمين يعيشون بيننا ـ سنين عددا ـ فما ضُيِّقَ عليهم في عيش، ولا أكرهوا على تغيير معتقد
ثالثاً: إننا ـ معشر المسلمين ـ لا نمانع في بذل الدنيا من أجل الدين؛ فلأهل الحكم ـ إن رأوا ذلك سائغاً مناسبا ـ أن يبذلوا للقوم ما شاءوا من مغانم أو مناصب؛ كما فعل رسول الله r حين تألف أقواماً من الكفار والمنافقين بمال أو جاه أو متاع؛ وتلك هي المداراة المشروعة، لكن الممنوع المحظور هو بذل الدين من أجل الدنيا، والتنازل عن الثوابت من أجل مصلحة متوهمة فتلك هي المداهنة التي ذم الله أهلها )ودوا لو تدهن فيدهنون( ويا أيها المتراجعون المتنازلون ما أدراكم بعد أن ترضخوا لمطالب القوم في تبديل الشريعة ومسخ الهوية أن يقتنعوا بأن يكفوا أيديهم، وإنا لنعيذكم بالله من أن تكونوا )كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم( نعيذكم بالله من الحور بعد الكور، نعيذكم بالله من أن تتخذوا الدين مطية للدنيا
رابعاً: أن المسلمين في هذه البلاد يريدون أن يروا شريعة إسلامية تتمثل في إقرار الحقوق والوفاء بالعهود، شريعة يستوي فيها القوي والضعيف، والوضيع والشريف، شريعة تحفظ المال العام، وتأخذ على أيدي السفهاء، شريعة يرعى فيها حق اليتيم والمسكين ومن لا يجد ناصرا، شريعة تقوم على العدل والرحمة والقسط، ويجد كل امرئ فيها حقه غير متعتع. هذه هي الشريعة التي نريدها، ومبدؤها دستور إسلامي نصوصه واضحة في أن الحكم لله، وأن الحاكم ليس إلا حارساً للدين وسائساً للدنيا به.
خامساً: إن دعوى الإجماع الوطني من تلك الأحزاب دعوى كاذبة خاطئة؛ فوالله ما أجمع الناس في السودان، ولن يجمعوا أبداً على ترك الشريعة، بل هي دعوة شاذة خاسرة يقودها قوم )كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم( قوم )قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم( وما هم في العير ولا النفير، يعلم ذلك كل منصف، وتشهد بذلك بيوت الله الغاصة بالركع السجود الذين لا يريدون لأحكام الله تبديلاً ولا تغييراً، إن هؤلاء الكارهين لحكم الله من الشيوعيين والمنافقين وأذناب الصليبين قليل عددهم ضعيف بأسهم، وقد يئسوا من أن تقوم لهم قائمة أو تروج لهم سلعة، فلجئوا إلى مثل تلك الحيل الباطلة والحجج الداحضة ليجدوا لأنفسهم موطئ قدم
وإننا نقول بملء أفواهنا: إن الشعب مع الحاكم الذي يطبق شريعة الله ويرضخ لأحكام الله، وإنكم مدعوون – يا أهل الإسلام –ويا عباد الرحمن – عقب هذه الصلاة المباركة للخروج من المساجد والتجمع في ميدان (أبي جنزير) لتؤكدوا رغبتكم في شريعة ربكم ورضوخكم لأحكام دينكم، ولتسمعوا من العلماء كلمتهم، وتوجهوا إلى القادة كلمتكم، إذا كان إخواننا في مصر وغيرها قد خرجوا يهتفون (الشعب يريد إسقاط النظام) فإننا لن نهتف بذلك بل سنهتف (الشعب يريد تحكيم الشريعة) لن نخرب عامراً، ولن نحمل سلاحا، ولن نثير أحقاداً، ولن ننبز أحداً بلقب يسوؤه، لكننا سنكذب – بخروجنا هذا – أقواماً يزعمون أنهم يمثلون الشعب وهم كاذبون، سنثبت – بخروجنا هذا – أن السواد الأعظم من أهل هذه البلاد لدينهم محبون، وعلى شريعة ربهم حريصون، ولأهل النفاق والإلحاد كارهون.
يا أيها المسلمون: انفروا خفافاً وثقالا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، واجعلوها غضبة لله، لا لعصبية ولا لجاهلية، وكونوا مع الله يكن الله معكم )ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز(
وأخيراً نسأل الله أن يصلح من في صلاحه صلاح المسلمين، وأن يهلك من في هلاكه صلاح المسلمين، وأن يبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه وليه ويذل فيه عدوه ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه خير المسئولين وخير المعطين