الحمد للَهُ الذي له مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
1- العدل هو قاعدة من قواعد النظام العام الإسلامي، قال تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} والعدالة الاجتماعية تقوم على شرطين:
2- أسس العدالة الاجتماعية في المنظور الاقتصادي الإسلامي تنطلق من جملة من المفاهيم القرآنية الكلية ذات التطبيقات الفقهية الجزئية، ومن هذه المفاهيم:
أولا: إسناد ملكية المال لله تعالى؛ قال سبحانه {وآتوهم من مال الله الذي أتاكم}
ثانيا: استخلاف الجماعة في الانتفاع بالمال، أما الفرد فنائب ووكيل عن الجماعة في الانتفاع بالمال على وجه لا يتناقض مع مصلحتها، قال تعالى {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} وهذا الاستخلاف العام يتحقق من خلال القواعد التالية:
ا/ أن للجماعة حق الانتفاع بمصادر الثروة الرئيسية دون الفرد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار) روه احمد وأبو داود
ب/ تولي الدولة إدارة إنتاج هذه المصادر باعتبارها وكيلاً للجماعة ونائباً عنها، قال عمر رضي الله عنه (لو أن عناقاً ذهب بشاطئ العراق لأخذ بها عمر يوم القيامة)
ج/ أما ما دون مصادر الثروة الرئيسية فان للجماعة أن تتركه حقاً ينتفع به الفرد، بشرط أن لا يتعارض ذلك مع مصلحتها.
3- العدالة الاجتماعية مرتبطة بوظيفة الملكية، فهي تنتفي عندما يكون من حق المالك اتخاذ القرار الاقتصادي دون المجتمع (الملكية الخاصة)، وتتحقق عندما يكون القرار الاقتصادي أصلا من حق المجتمع، وبالتالي يجب أن لا يتناقض مع مصلحة المجتمع، بصرف النظر عن الشكل القانوني للملكية ”فردية، تعاونية، مشتركة، عامة..” (الملكية الاجتماعية). وبالرجوع إلى المنظور الاقتصادي الإسلامي، نجد أنه يرفض الملكية الخاصة، والتي تسمى (ملكية الرقبة)، والتي تخول للفرد التصرف المطلق في المال، إذ أن مضمونها يقابل مصطلح الملكية القرآني، والملكية طبقا له هي صفة من صفات ربوبية الله تعالى ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وإسنادها إلى سواه هو شرك في الربوبية ﴿وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ أما الملكية الفردية كشكل قانوني للملكية، فقد أقرها المنظور الاقتصادي الإسلامي، لكن على وجه يتسق مع تصور خاص للملكية الاجتماعية، يقوم على أن الله تعالى هو مالك المال، وان الجماعة هي المستخلفة أصلا في الانتفاع به، أما الفرد فنائب ووكيل عنها.
4- الأرض لمن يفلحها: وامتداداً للمفهوم الإسلامي للملكية، والقائم على إقرار الملكية الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية، نجد أن الإسلام يقرر أن ملكية الأرض لله تعالى وحده {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأن الله تعالى استخلف الناس في الانتفاع بها، فملكية الأرض في المنظور الاقتصادي الإسلامي إذاً مقصورة على ملكية الانتفاع دون ملكية الرقبة. ويترتب على هذا:
أولا: إن ملكية الأرض يكون بمقدار العمل على الانتفاع بها، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال (من أحيا أرضاً ميتة فهي له وما أكلت العافية منها فهي له صدقة) روه أحمد والنسائي وابن حبان.
ثانياً: إذا لم يعمل الفرد على الانتفاع بالأرض نزعت منه ملكيتها، وأدلة ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين) وقوله صلى الله عليه وسلم (من عطل أرضاً ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطى بلال بن الحارث أرض العقيق، فلما كان زمان عمر قال لبلال (إن رسول الله لم يقطعك لتحتجزه عن الناس، إنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي)
5- من أسس العدالة الاجتماعية في المنظور الاقتصاد الإسلامي أن الدولة الإسلامية ينبغي أن تقوم بتوفير العمل المناسب لكل فرد حسب مقدرته، فقد روى البخاري حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ, فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوهُ أَوْ مَنَعُوهُ» أوجب الإمام الغزالي في الإحياء أخذاً بهذا الحديث أن علي ولي الأمر إن يزود العامل بآلة العمل، وعلي الدولة الإسلامية أن تراعي في الأجور إن تفي في إشباع الحاجات الأساسية، فقد روي أن أبا عبيدة تحدث يوماً مع عمر رضي الله عنه في استخدام الصحابة في العمل فقال (أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة) قال أبو يوسف في تفسيره (إذا استعملتم على شيء فابذل لهم العطاء والرزق لا يحتاجون)
6- ومن أسس العدالة الاجتماعية في المنظور الاقتصاد الإسلامي أن الدولة الإسلامية ينبغي أن تقوم بتوفير العلاج بأسعار مناسبة، وأدلة ذلك ما ورد في السيرة إن نفراً من عيينة قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلموا واستوخموا المدينة، وشكوا الم الطحال، فأمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى لقاحة، وكان سرح المسلمين بذي الجدر ناحية قباء قريبا من عير ترعي هنالك، فكانوا فيها حتى صحوا وسمنوا وكانوا استأذنوه أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فأذن لهم، وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن واليه وأحواله مع رعيته، وكان مما يسأل عنه عيادته المرضى جميعاً أحرارهم وعبيدهم، فان أجاب رعية الوالي عن خصلة من الخصال بانتفائها من واليهم عزل الوالي لعدم قيامه بحق رعايته، ومر عمر رضي الله عنه عند مجيئه الشام علي قوم من المجذومين ففرض لهم شيئا من بيت المال.
7- ومن أسس العدالة الاجتماعية في المنظور الاقتصادي الإسلامي أن الدولة الإسلامية ينبغي أن تقوم بتوفير التعليم الضروري بالمجان، وذلك قياساً علي قوله تعالى {قل لا أسألكم عليه من اجر إن أجري إلا علي الله} كما روى أبو داود عن أبى شيبة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله رجل أهدى لي قوسا، ممن كنت أعلمه الكتاب والقران،وليس بمال وأرمي عليهما في سبيل الله. فقال (إن كنت تحب إن تكون طوقا من النار فاقبلها). قال ابن حزم (وفرض على الإمام أن يأخذ بذلك، وأن يرتب أقواماً لتعليم الجهال)
8- ومن أسس العدالة الاجتماعية في المنظور الاقتصادي الإسلامي أن الدولة الإسلامية ينبغي أن تقوم بوضع ضوابط للسوق، تتضمن تسعير السلع الضرورية والاستراتيجية، وهنا نجد في الفقه الاقتصادي الإسلامي ثلاثة مذاهب حول حكم التسعير، المذهب الأول هو مذهب المنع الذي يرى أنه لا يجوز للحاكم أن يسعر على الناس مطلقاً (المنع)، وإن فعل ذلك يكون فعله هذا إكراهاً يكره معه البيع والشراء (الكراهه)، ويمنع صحة البيع عند بعضهم (التحريم)، وقد استدل أنصار هذا المذهب بأدلة، منها قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله هو المسعِّر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)، غير أن هذا الحديث -وغيره من النصوص المماثلة- لا يدل على المنع المطلق للتسعير، ولكنه يدل على المنع من التسعير في الأحوال التي يكون التسعير فيها مجحفاً بحق البائع أو العامل الذي يقوم بما يجب عليه من امتناع عن الاحتكار أو التواطؤ لإغلاء الأسعار ورفعها، يقول ابن تيميه (من احتج على منع التسعير مطلقاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله هو المسعر) قيل له: هذه قضية معينة، وليست لفظاً عاماً، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه، كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه – فهنا لا يسعر عليهم). أما المذهب الثاني فهو مذهب الإيجاب: فقد ذهب بعض العلماء، كسعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن: إلى جواز التسعير مطلقاً (الوجوب)، وذهب المالكية إلى جواز التسعير في الأقوات مع الغلاء. أما المذهب الثالث فهو مذهب الجمع بين المنع والإيجاب: فقد ذهب كثير من متأخري الحنفية وبعض الحنابلة، كابن تيمية وابن القيم إلى منع التسعير في أحوال وإيجابه أحياناً أخرى،يقول ابن تيمية: التسعير منه ما هو ظلم, ومنه ما هو عدل جائز بل واجب) ويقول (إذا تضمن العدل بين الناس, مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل, ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل, فهو جائز بل واجب) ويقول ابن القيم (فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام, وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل, ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل, فهو جائز, بل واجب). والمذهب الذي نرجحه، والذي يتسق مع مضمون مذهب الجمع بين المنع والإيجاب، أن التسعير يختلف الحكم عليه طبقاً لمصلحة الجماعة، يقول ابن القيم (وجماع الأمر أن مصلحة الناس, إذا لم تتم إلا بالتسعير, سعر عليهم تسعير عدل لا وكس فيه ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم بدونه, لم يفعل)، فإن كان التسعير في سلعة معينة في ظرف معين لا يحقق مصالحها ويلحق بها الضرر كان المنع، أما إذا كان التسعير يحقق مصلحة الجماعة كان الإيجاب بشرط أن لا يتضمن السعر الذي تضعه الدولة الضرر للبائع والمشتري. وللجماعة مصلحه دائمة في وجوب تسعير السلع الضرورية والاستراتيجية، دفعا لضرر دائم يتمثل في وقوع الناس في عبودية فئة تحتكر أرزاقهم، وهو ما يناقض مع جوهر المفهوم الإسلامي للمال.