خطب الجمعة

النصر مع الصبر

خطبة يوم الجمعة 9/4/1433 الموافق 2/3/2012

هذا الحديث قطعة من ذلك الحديث العظيم – حديث ابن عباس رضي الله عنهما-: “احفظ الله يحفظك…” الحديث، وفيه: “واعلم إن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا” قال الألوسي – رحمه الله -: “فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه، فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة، ويجد العزة برحمة الله عز وجل”.

ويقول العلامة السعدي -رحمه الله- في بيان قاعدة من قواعد القرآن، وهي: أن الله تعالى يجعلُ الأسبابَ للمطالب العالية مبشراتٍ لتطمين القلوب وزيادة الإيمان، وهذا في عدة مواضع من كتابه، فمن ذلك – بل من ألطف من ذلك -: أنه يجعل الشدائد مبشرة بالفرج، والعسر مؤذناً باليسر، وإذا تأملت ما قصَّه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ}، {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} رأيت من ذلك العجب العجاب، وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) وأمثلة ذلك كثيرة”.

أيها الإخوة الأكارم:

هكذا يرسخ عليه الصلاة والسلام في قلوب أتباعه هذه القاعدة الجليلة، التي تكتسح جحافل اليأس، وتخوض بك غمار الحياة بروح وثابة، وعزم متجدد، إنها قاعدة تكسو الحياة فألاً وقوة، وترسم بسمة التفاؤل على شفاه البائسين.

إن “الإنسان في الدنيا – ولا سيما الصالحون – معرَّضون للمصائب؛ لقوله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

فالصبر هو الباب الوحيد الذي يؤمر بطرقه هؤلاء المصابون، وهو الفناء الجميل الذي يفتح لهم صدره، ويَنصِب لهم ظله.

قال عمر لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتم الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قوماً إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا، وقال بعض السلف: كلنا يكره الموت وألم الجراح، ولكن نتفاضل بالصبر.

وهذا في جهاد العدو الظاهر، وهو جهاد الكفار، وكذلك جهاد العدو الباطن، هو جهاد النفس والهوى؛ فإن جهادهما من أعظم الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في الله).

وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك، فجاهدها، وابدأ بنفسك، فاغزها.

وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب.

فهذا الجهاد يحتاج أيضاً إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه؛ غلبه، وحصل له النصر والظفر، وملك نفسَه؛ فصار عزيزاً ملكاً، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك؛ غُلب وقُهر وأُسر، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه، كما قيل: إذا المرء لم يغلب هواه أقامَه *** بمنزلةٍ فيها العزيزُ ذليلُ

قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر! ومن جزع فما أقل ما يتمتع!

فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن النصر مع الصبر) يشمل النصر في الجهادين: جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيهما، نُصر وظَفِر بعدوه، ومن لم يصبر فيهما وجزع، قُهر وصار أسيراً لعدوه أو قتيلاً له.

أيها المبارك: والصبر هنا يشمل: الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة؛ لأن العدو يصيب الإنسانَ من كل جهة، فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه؛ فيتحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف، وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه، فهذا أيضاً يجب أن يصبر، قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، وقال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط؛ فإن الله سبحانه ينصره.

لقد جاء في مسلم من حديث أبي مالك الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)، لنقف مع قوله: (الصلاة نور)، (والصبر ضياء) إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الشمس والقمر قال: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}، فأيهما أقوى؟ الشمس أقوى، فالحديث جعل الصبر ضياء، وجعل الصلاة نوراً، والصلاة هي عماد الدين، فكيف يكون الصبر أكثر إشعاعاً، وأكثر إضاءة، وأكثر فعالية في قلب المؤمن؟!

إنك لو تأملت في التشريع كله – من الأوامر والنواهي – لوجدتَ قوام ذلك كله على الصبر، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فقدَّم الصبر، وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فلولا الصبر لما توضأ أحد بالماء البارد في الشتاء، وخرج من بيته إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحدٌ على الحر في القائلة، وخرج في الظهيرة إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحدٌ على المال، والنفسُ شحيحة، فأخرَجَ جزءًا من المال وهو صنو النفس، ولولا الصبر لما حمل أحدٌ سيفَه في يد، والروحَ في اليد الأخرى، وقاتل الأعداء، ولولا الصبر لما صبر أحدٌ على فعل طاعة، ولا صبر على ترك معصية، (فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) وإذا فصلنا الرأسَ عن الجسد صار جثة نواريها.

قال مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ: وَمَا نَالَ أَحَدٌ شَيْئًا من جَمِيع الْخَيْرِ – نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ – إِلا بِالصَّبْرِ.

عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيه ** يكون وراءه فرجٌ قريب

فيأمنُ خائفٌ ويُفك عانٍ **      ويأتي أهلَه النائي الغريبُ

وتأمل قصة هذا الرجل، الذي كان صاحب مال وثروة وصحة وعافية وولد، ثم كيف سلبها الله منه في لحظة واحدة؛ فلعلها تعزي أصحاب النكبات والأحزان، كما عزت عبد الملك بن مروان: قال سليمان بن أبي شيخ: حدثني نابل بن نجيح قال: كان باليمامة رجلان ابنا عم، فكثر مالهما، فوقع بينهما ما يقع بين الناس، فرحل أحدُهما عن صاحبه، قال: فإني ليلةً قد ضجرت برغاء الإبل والغنم والكثرة، إذ أخذتُ بيد صبيٍ لي وعلوت في الجبل، فأنا كذلك إذ أقبل السيلُ فجعل مالي يمر بين يدي ولا أملك منه شيئاً! حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامُها بشجرة، فقلت: لو نزلتُ إلى هذه فأخذتها لعلي أنجو عليها أنا وبنيَّ هذا، فنزلت فأخذت الخطامَ، فجذبها السيل ورجع عليّ غصنُ الشجرة فذهب ماءُ إحدى عيني، وأفلت الخطام من يدي فذهبت الناقة! ورجعتُ إلى الصبي فوجدته قد أكله الذئب! فأصبحت لا أملك شيئاً!! فقلت: لو ذهبتُ إلى ابن عمي لعله يعطيني شيئاً، فمضيت إليه فقال لي: قد بلغني ما أصابك، والله ما أحببت أنه قد أخطأك!! فكان ذلك أشد مما أصابني. فقلت: أمضي إلى الشام فأطلب!! فلما دخلت إلى دمشق؛ إذا الناس يتحدثون أن عبد الملك بن مروان أصيب بابن له؛ فاشتد حزنُه عليه، فأتيت الحاجبَ فقلت: إني أُحدّث أميرَ المؤمنين بحديث يعزيه عن مصيبته هذه، فأذكرْ ذلك له، وذكرَه؛ فقال: أدخله، فأدخلني، فحدثته بمصيبتي؛ فقال: قد عزيتني بمصيبتك عن مصيبتي! وأمر لي بمال، فعدت وتراجعتْ حالي.

اللهم اجعل الصبر لنا شعاراً ودثاراً، واجعلنا من الصابرين عند البلاء، الشاكرين عند النعماء، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وزوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى