1/ فمع بداية عام جديد لا بد أن أعظ نفسي وإخواني بموعظة أذكرهم فيها قيمة الوقت ونفاسة العمر؛ فأقول: أيها المسلمون إن الله تعالى {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزير الغفور} وجعل لكل منا أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر؛ وإن رأس مال المسلم في هذه الدنيا هو الوقت الذي هو مادة الحياة. والوقت أنفس من المال وأغلى، أرأيت لو أن محتضراً نزل به هاذم اللذات ومفرق الجماعات وجلس ملك الموت عند رأسه؛ فعرض على ملك الموت أن يضع أمواله جميعاً ليزاد في عمره يوم واحد هل يحصل له ذلك التمديد وتلك الزيادة؟! اللهم لا، وقد قال سبحانه {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
2/ أيها المسلم: إن الوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع، ولعظم أهمية الوقت فقد أقسم الله به عز وجل في آيات كثيرة من كتابه الكريم منها؛ فقال سبحانه {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقال سبحانه {والفجر وليال عشر} فأقسم جل وعلا بالعصر، وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين، وزمن الشقاء للمعرضين، ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين. وأقسم جلَّ جلالـه بالفجر وأقسم بالضحى والليل إذا سجى، وأقسم بالليل إذا يغشي والنهار إذا تجلى، وأقسم بالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها، لأن هذه كلها من نعمه على عباده؛ يقول عز وجل في بيان هذه النعم العظيمة التي هي من أصول النعم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال تعالى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه} وقال تعالى {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
2/ وعنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ» أخرجه الترمذي وهو صحيح. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» أخرجه البخاري. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” المستدرك وهو صحيح
3/ إن الله عز وجل خلقنا لأمر عظيم حدد الإجابة فيه بآية كريمة فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}
ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حينٌ يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر القرآن الكريم موقفين يندم فيهما الإنسان على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حيث يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأُخِّر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات. قال تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
الموقف الثاني: في الآخرة، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتُوفَّى كل نفس ما عملت وتُجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدؤوا من جديد عملاً صالحا. قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} وقال سبحانه {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ. وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
4/ وعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِجُلَسَائِهِ: “يَا مَعْشَرَ الشُّيُوخِ: مَا يُنْتَظَرُ بِالزَّرْعِ إِذَا بَلَغَ؟ قَالُوا: الْحَصَادُ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: إِنَّ الزَّرْعَ قَدْ تُدْرِكُهُ الْعَاهَةُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ” (الزهد للبيهقي)
إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإلا عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته.
5/ الواجب على المؤمن المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها، إما لموت أو شغل أو غير ذلك من الحوادث {بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً} {لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون؛ فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}
6/ الندم يوم القيامة على ما ذهب من أوقات في غير طاعة (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل)
7/ وقد انتبهت الأمم الأخرى إلى قيمة الوقت وأهميته، فالناس في جميع بلدان العالم كانوا يظنون أنه لن تقوم للألمان قائمة، بعد دمار بلدهم، وهلاك الحرث والنسل فيه خلال الحرب العالمية الثانية.. ولكن أصحاب العقول من العلماء والحكماء والسياسيين الألمان راحوا يعملون بهمم جبارة، ورفعوا شعار العمل ساعتين مجاناً في كل يوم من أجل بناء بلدهم، واستجاب الشعب لهم، وهبُّوا جميعاً يعملون على قلب رجل واحد، وخلال زمن يسير عادت ألمانيا دولة قوية مرهوبة الجانب وكأنها لم تتعرض لدمار شامل.
فتصوروا لو عمل المسلمون ساعتين في اليوم مجاناً في سبيل الله لو كان عملهم في مجال الاقتصاد لكان دخل الدعوة الإسلامية لا يقل عن ألفي مليون دولار في اليوم الواحد، وسيكون خلال شهر واحد ستين ألف مليون دولار، ولو رصد مثل هذا المبلغ في سبيل الله لتغير وجه الأرض شريطة أن يصاحبه تخطيط وصدق.
ولو كان عمل المسلمين في مجال تبليغ الدعوة لدخل الناس في دين الله أفواجاً في كل مكان من المعمورة، وأصبح الإسلام دين البشرية كلها. ولو كان عملهم في المجال العلمي بجميع جوانبه وفروعه، لقاد علماء أمتنا العالم ولانتهت أسطورة اليهود وغير اليهود.
وفضلاً عن هذا كله، فنحن أحقُّ من الألمان بمثل هذا العمل لأنهم يعملون من أجل دنياهم، ونحن نعمل من أجل دنيانا وآخرتنا. فهل نبدأ عامنا الجديد ونحن أكثر استعداداً لعمل الخير وطاعة الله سبحانه وتعالى؟! وهل نتخلى عن السهرات والجلسات الفارغة وما يدور فيها من غيبة ونميمة ومراء ونفاق؟! وهل نستفيد من أوقاتنا، ونحزن على كل يوم يمضي من أعمارنا دون أن نعمل فيه عملاً طيباً خالصاً لوجه الله؟! وهل نجدد العهد مع الله، ونتأسى برسول الله صلى الله عليه وسـلم وأصحابه الغر الميامين الذين عرفوا كيف يستفيدون من أوقاتهم؟!
إذا ما مات ذو علم وتقوى…فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى.. بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتى كثير الجود محل.. فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت الفارس الضرغام هدم.. فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً.. يناجي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم.. وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الناس في لهو وتيه.. وفي إيجادهم لله حكمه