1ـ فإن الواجب على المسلم إذا نزلت به نازلة أو تجدد في حياته حدث أن يسأل العلماء الموثوقين في دينهم، المهرة في علمهم الذين يعرفون النص الشرعي والواقع الذي يسألون عنه، قال تعالى )فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون( وذم الله تعالى أقواماً فقال )وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم(
2ـ واقع الناس يدل على أن كثيرين يجرؤون على القول في دين الله بغير علم ويعطون أنفسهم حق الفتوى بدعوى أنه ليس في الإسلام كهنوت أو أنه ليس في الإسلام طبقة رجال دين، ويكون من نتاج فعلهم أنهم يقدمون العقل على النص، والهوى على الشرع بدعوى تحقيق المصلحة، ولا يتقيدون في ذلك بالضوابط الشرعية التي توارثها علماء هذه الأمة خلفاً عن سلف، إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب، ويورث الحزن، وذلك بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول أو ذوق أو قياس أو سياسة…….
3ـ إن الضوابط الشرعية في تلقي نصوص الوحيين تعني جملة أمور:
أولها: التعظيم والتسليم؛ فلا بد من التسليم التام والخضوع الكامل للنصوص الشرعية، كما أنه يتعين التحاكم إليها وتقديمها على غيرها وإجلالها وتوقيرها، قال تعالى )ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا( وقال تعالى )ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى( وكان من أعظم ما أنعم الله به على سلفنا اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده؛ لأنه قد ثبت عندهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول صلى الله علـيه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم.
ثانيها: عدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فبما أمرها به، أو نهاها عنه، أو بلّغها عن ربها، بل انقادت، وسلمت، وأذعنت.وقد كان الصحابة وهم أكمل الأمة عقولاً ومعارف وعلوماً لا يسألون نبيهم صلى الله علـيه وسلم لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام.وهكذا كانت تربية نبينا صلى الله علـيه وسلم لأصحابه، وقد خرج عليهم يوماً وهم يقولون: ألم يقل الله كذا وكذا، يرد بعضهم على بعض، فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال: {ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم} ولما سألت معاذة العدوية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة: أحرورية أنت؟ فقالت المرأة: لست حرورية، ولكني أسأل. قالت:كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة} ويحدث عمران بن حصين t فيقول: قال رسول الله صلى الله علـيه وسلم {الحياء كله خير} فيقول أحدهم: إنا لنجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعف. فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله علـيه وسلم وتعارض فيه. قال فأعاد عمران الحديث، وأعاد الرجل مقالته، فغضب عمران، حتى قال الحاضرون له: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به} أي ليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة. وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة t {احتج آدم وموسى} فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله علـيه وسلم وتعارض بكيف؟! فما زال يقول حتى سكت عنه.
ثالثها: الإيمان بجميع ما جاء عن الله تعالى وما صح عن رسوله صلى الله علـيه وسلم فمن سمات أهل السنة الإيمان بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل الأهواء، فأهل الحق يؤمنون بالله وبما جاء عن الله على مراد الله كما يؤمنون بالرسول صلى الله علـيه وسلم على مراد الرسول صلى الله علـيه وسلم يقول تعالى )يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً( وقال سبحانه )والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا( إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية الوسطية بين الفرق، كما كانت هذه الوسطية سبباً في هداية الله لهم فيما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإيمانهم مثلاً بنصوص الإثبات مع التنزيه في باب صفات الله تعالى جعلهم وسطاً عدلاً بين المعطلة والمشبهة، كما أن إيمانهم بنصوص الوعد والوعيد جعلهم وسطاً بين الوعيدية والمرجئة، وإيمانهم بالنصوص التي تضمنت إثبات قدرة الله وخلقه ومشيئته مع النصوص التي تثبت للعبد فعلاً ومشيئة..أورثهم المسلك الوسط الخيَّر بين القدرية النفاة والجبرية، وكذا إيمانهم بجميع النصوص الصحيحة في فضائل الصحابة جعلهم وسطاً بين الروافض والخوارج.
وقد حرص سلف الأمة على تطبيق هذا الأصل، فكانوا أهل الوسطية والاعتدال، ومثال ذلك أن الزهري رحمه الله حدّث بحديث الرجل المسرف على نفسه، والذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار جهلاً منه بقدرة الله فبعثه الله وسأله عن سبب صنيعه فقال هذا الرجل: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك.ثم حدّث الزهري بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً. رواه مسلم. ثم قال الزهري: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل.
وجاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله يسأله عن فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وكان ذلك في أيام فتن – فذكر الحسن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله علـيه وسلم قال {لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق ثم أتبعه الحسن بحديث آخر فقال: قال النبي صلى الله علـيه وسلم {ليس لمؤمن أن يذل نفسه، قيل: يا رسول الله، وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق}
رابعها: مراعاة أحوال المخاطبين، فمن المعلوم أن لكل مقام مقالاً، وربما صح مقصد المكلف، وحسنت نيته، لكن قصر فهمه عن إدراك المقصود من النص، فساء إدراكه والتبس عليه الأمر، ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم ممن جمعوا بين حسن القصد مع حسن الفهم، وقد يحرم البعض أحد الأمرين أو كلاهما. وقد طبق الصحابة رضوان الله عليهم هذا الضابط، فكانوا في دعوتهم وتبليغهم مراعين لأفهام الناس وأحوالهم، فها هو عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو يعالج مرض الموت يقول: ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله علـيه وسلم لكم فيه من الخير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله علـيه وسلم يقول {من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار} رواه مسلم. وجاء في حديث معاذ رضي الله عنه قوله صلى الله علـيه وسلم {ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم عليه النار} فقال معاذ: يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا} فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.