جهاد المنافقين
إن المنافقين ومرضى النفوس لا يتيسر علاج أدوائهم من داخل أنفسهم في غالب الأحيان لفقدان الوازع وغياب الضمير، ولكن لما كانت عللهم متعدية في الضرر إلى غيرهم، لزم توجيه علاجهم من خارج ذواتهم لا طلباً لبرئهم هم بقدر ما هو لأجل حفظ الناس من شرور أمراضهم، وهذا والله أعلم السر في إيجاب مجاهدتهم والإغلاظ عليهم في قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ( فكما أن الغلظة على الكافرين مطلوبة، فكذلك الغلظة على المنافقين، ولهذا قال القاسمي:)وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ( أي على كلا الفريقين بالقول والفعل، وهذا لا يمنع من مواجهة شُبه المنافقين وطعونهم بالدلائل والبراهين و «بإلزامهم الحجج وإزالة الشبه»، وكذلك «بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها»؛ فهم أكثر الناس وقوعاً فيما يوجب الحد لعدم ورعهم وقلة ارتداعهم.
ولهذا قال الحسن في تفسير الآية: «جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم»، وقال قتادة بقوله، ووجَّها قولهما بأن المنافقين أكثر من يصيب الحدود.
ولكن ابن العربي في تفسيره لم يرتض هذا القول ولا توجيهه، ووصف ذلك القول بأنه «دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامناً، لا بما تلتبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين» لكني أرى أن اعتراض ابن العربي لا يسلم له؛ لأن القائلين بأن المنافقين يجاهَدون بإقامة الحدود لم يقصدوا أن كل من تقام عليهم الحدود هم من المنافقين، ولكنهم قصدوا أن المنافقين هم أكثر الناس إصابة للذنوب التي تستوجب إقامة الحدود، وهذا صحيح؛ لأن هؤلاء لا يمنعهم من اقتراف الذنوب وإظهارها في دار الإسلام إلا عز الإسلام وإقامة الحدود، ولهذا فإن المنافقين يكونون في صراع مع أنفسهم لكيلا يقعوا في موجبات إقامة الحدود عليهم.
فجهاد المنافقين بإقامة الحدود هو نوع من جهادهم باليد؛ لأن جهادهم يشمل الجهاد بالقلب واللسان واليد كما قال ابن مسعود t في تفسير )جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ( «بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه»
ولكن المشكلة هنا أن المنافقين اليوم هم أول من ضيَّع إقامة الحدود وعطل الحكم بها والتحاكم إليها.
وقد حكى الطبري أقوالاً أخرى في معنى الآية تدور حول الاقتصار في جهاد المنافقين على اللسان، ثم اتجه كعادته إلى الترجيح بين الأقوال واختيار ما يراه أولى بالصواب فقال: «وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره من جهاد المشركين، فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إن الله تعالى ذِكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم؛ فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أنه يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقداً غير ذلك».
فجهاد المنافقين إذن إذا أظهروا الكفر الجلي بقول أو فعل أن يجاهدوا مثل جهاد الكفار.
قال ابن كثير رحمه الله: روي عن علي t أنه قال: «بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: )فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ( وسيف لكفار أهل الكتاب:) قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ( وسيف للمنافقين: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ( وسيف للبغاة )قَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ(، ثم قال ابن كثير: (وهذا يقتضي أن يجاهدوا بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير).
وهنا نقول: إذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم فلا أقل من تعويض ذلك بجهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترد ما يستطاع من كيدهم للدين وإلا فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل بلاد المسلمين، والجهاد المطلوب يشترط فيه أن يكون وفق الضوابط الشرعية والموازنة بين المصالح والمفاسد، المهم ألا ينسحب الترك العام لجهاد الكفار إلى ترك عام لجهاد المنافقين.
إن فقهاء الإسلام وعلماءه، عندما تحدثوا عن أحكام جهاد المنافقين، لم يفترضوا واقعاً خيالياً، بل تحدثوا عن واقع عاشته الأمة الإسلامية معهم منذ أن وُضعت لبنات مجتمعها الأول في المدينة المنورة، وصفحات السيرة والتاريخ تقطر بمواقف مخزية لحزب المنافقين الذي ظهر أول ما ظهر في مجتمع الطهارة والنقاء الأول في عهد الرسالة، ولم يستح ذلك الصنف من الناس أن يكون له حزبه وجنده في أطهر مكان وأفضل زمان في تاريخ الإنسان؛ ففي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلت ظاهرة النفاق برأسها لتعلن أن خطرها لن يستثني زماناً دون زمان ولا مكاناً دون مكان بل ولا إنساناً دون إنسان، ولو كان هذا الإنسان هو خير البشر وسيد الرسل صلى الله عليه وسلم؛ ففي أخطر لحظات الدعوة الإسلامية وأدق المراحل التي واجهت فيها أعداءها الخارجيين؛ كان حزب النفاق بالمرصاد لهذه الدعوة في صف أعدائها، وقد أفاض القرآن في عرض مواقف المنافقين في تلك المراحل، ونحن بحاجة إلى جمع أبرزها في موضع واحد، ليتجسد معنا معنى قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء )هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ( ولنعلم أنه إذا كان هذا هو خطر النفاق في مجتمع النبوة، فكيف يكون شأنه في غيره؟ المنافقون وخذلان المسلمين: بعد أن عزمت قريش على الثأر لهزيمتها في بدر الكبرى، علم الرسول صلى الله عليه وسلم بنواياهم وتحركاتهم، واستقر الأمر بعد المشورة ألا يمكث المسلمون في المدينة للدفاع عنها بل يخرجوا للقاء قريش قبل أن تهجم على المدينة، وهذا ما لم يكن زعيم المنافقين آنذاك (عبدالله بن أُبي بن سلول) موافقاً عليه، وجاءت قريش بجمع حاشد من ثلاثة آلاف مقاتل بكامل الإعداد والعتاد، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ألف مقاتل في موقف دفاع، وبينما كان الفريقان يستعدان للنِّزال في معركة فاصلة، إذا بزعيم النفاق ينخذل عن جيش المسلمين بثلاثمائة من قومه، ليعود للقعود في المدينة، معللاً خذلانه للمسلمين بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أطاعهم وعصاني» فلحق بهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن حرام يناديهم: «يا قوم! أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر عدوكم».
ولكن هيهات أن يستجيب قوم ينتظرون ظرف الانتقام من الدعوة وأهلها لدعوات الرجولة والمروءة.
ولهذا قال لهم ذلك الصحابي عندما علم خستهم وانتهازيتهم: «أبعدكم الله أعداء الله» إن مصالحهم الأنانية الآنية ونجاتهم الشخصية وسوء ظنهم بالله تعالى جعلهم يخذلون المسلمين في هذا الظرف الدقيق متعللين بأن رأيهم لم يُحترم وكلامهم لم يؤخذ به؛ ولهذا فإن مشاركتهم لن تتم، وكأن المشورة يُشترط فيها ترجيح قولهم على قول غيرهم..! يصور القرآن هذا المشهد ويحكي هذا التصرف في معرض حديثه عن غزوة أحد: )وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا(
وقد عد القرآن هذه المواقف الانتهازية من المنافقين أكبر من مجرد جبن من جبناء، أو عدم مسؤولية في نفوس رعناء، إنه أخطر من ذلك، إنها خيانة لأهل الإسلام بإسلامهم إلى الأعداء، وتعريض الدين إلى خطر الضياع أو الضعف؛ وتعريض حَمَلته للاستئصال؛ ومن أجل هذا عُدَّت إعانة الكفار على المسلمين أو تمكينهم منهم مسارعة إلى الكفر ونصرة له، ولهذا قال الله تعالى لنبيه بعد أن سجَّل على المنافقين جرمهم )وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظاًّ فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ويشاء الله تعالى أن تجري المقادير في غزوة أحد على نحو لم يفرح به المؤمنون، ولكن كان وراء ذلك حكمة بالغة سيقت في معرض الخطاب القرآني عن مصيبة أحد )مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ( فهل كان بوسع المؤمنين أن يستظهروا ما خفي من بواطن المنافقين لولا تلك الشدائد؟ المنافقون ومناصرة اليهود: كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة واتخذها عاصمة لدار الإسلام، قد أرسى دعائم الاستقرار والاستمرار لمجتمع تسوده علاقات طيبة مع الطوائف المجاورة أو الساكنة مع المسلمين في أرض الإسلام، وكان من هؤلاء قبائل من اليهود، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وهم فيها، فأراد أن يقي المسلمين شرهم، فعقد معهم عهداً يؤمنهم على أرواحهم وأموالهم في مقابل ألا ينقلبوا على المسلمين بغدر أو خيانة أو مظاهرة للأعداء من خارج المدينة، ولكن طبع اليهود غلب محاولات تطبيعهم أو تطويعهم لقيم الأمانة والوفاء، فغدرت منهم قبيلة بني قينقاع وخانت العهد، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن استعد لحربهم وإخراجهم من المدينة، وبدأ في حصارهم مستمراً في ذلك نحو خمس عشرة ليلة حتى ألقى الله الرعب في قلوبهم، فطلبوا الاستسلام، وارتضوا المصير الذي يحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم جزاء نقض العهد.
ولكن اليهود وجدوا من يتصدر لهم، ويتوسط لإطلاقهم؛ إذ طلب زعيم المنافقين إطلاقهم بدعوى أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، ووضع يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم حتى اشتد غضبه عليه الصلاة والسلام، وقال له: «ويحك أرسلني» قال: «لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالىَّ.. قد منعوني من الأحمر والأسود وتريد أن تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر» فأنزل الله تعالى قوله )فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ(، لقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم منهم بالجلاء عن المدينة وألا يساكنوه فيها، فهل قرَّ قرار النفاق بذلك، وهل ارتدع بقية اليهود بذلك؟ لقد حدث أن أحد المسلمين قتل رجلين من المشركين ثأراً لمقتل نحو سبعين من الصحابة قتلوا ظلماً على يد قبائل مشركة، دون أن يعلم الرجل المسلم الذي قتل الرجلين أن الرسول صلى الله عليه وسلم على عهد مع هؤلاء، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع دية القتيلين، ويطلب من قبيلة بني النضير اليهودية المعاهِدة أن تفي بأحد بنود العهد معها بأن تشارك في دفع دية القتيلين، وذهب بنفسه عليه الصلاة والسلام لطلب مشاركتهم، فتظاهروا بالقبول، ولكن سنحت لهم سانحة للغدر فلم يُفوِّتوها، فتآمروا لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أغراهم جلوسه أسفل أحد بيوتهم بأن يقتلوه بإلقاء حجر كبير عليه من أعلى البيت، ولكن الله تعالى أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتآمرهم، فانسحب بسرعة راجعاً إلى المدينة، وعازماً على حرب بني النضير.
وبالفعل؛ سار بالمسلمين نحوهم في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فتحصنوا وراء الجدر والحصون فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، وبينما هو مضروب حولهم بسبب جرمهم ونقضهم للعهد، إذا بالنفاق يطل برأسه من جديد ممالأة لقتلة الأنبياء، ويذهب وفد من المنافقين إلى معقل اليهود، ليهدئ من روعهم، ويكفكف لوعتهم ويعدهم بالوقوف والمساندة وبذل المستطاع في التحالف معهم، ولو اقتضى الدفاع عنهم أن يقاتلوا في صفهم ضد المسلمين!! ممن يحدث هذا؟! من أناس يعيشون بين المسلمين، وينتسبون إليهم ويصلون معهم! لقد كان أمراً خارجاً عن الحد الأدنى من طبائع الأمناء الشرفاء، حتى جعل القرآن يتنزل بحكاية خبر القوم )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ( لقد انتهى الأمر بإجلاء بني النضير إلحاقاً بإخوانهم في البُهت والسُّحت من بني قينقاع، وحالت عزة الإسلام أن يسل المنافقون سيوفهم ضد المسلمين معهم، وإلا فإنهم فلو تمكنوا لما تأخروا، ولكنها الرهبة من الإسلام، عظمت حتى ملأت قلوب الكافرين والمنافقين جميعاً )لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ(.
إن من يريد أن يقتفي أثر إفساد المنافقين خلال عهد الرسالة، عليه أن يبحث عن ذلك في مظان الحديث عن اليهود، فأينما وُجد اليهود، وُجد المنافقون.
المنافقون والتحالف مع الأحزاب: لما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع ثم بني النضير جزاء خيانتهم ونقضهم للعهود، اجتمع بقايا من اليهود الساكنين في خيبر شمال المدينة المنورة، وتآمروا مع يهود بني قريظة لتهييج المشركين من العرب في أنحاء الجزيرة على أهل الإيمان، ليكون الجميع يهوداً وعرباً ضد المسلمين، وقد أسفرت جهود التآمر تلك عن تكوين تحالف من عدة أحزاب للهجوم على المدينة من الخارج، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر، واستقر الرأي على ما أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن يظل المسلمون في المدينة متحصنين بها بعد أن يحفروا خندقاً حولها من الجهة المكشوفة التي يمكن للأعداء أن يداهموا المسلمين منها.
وبدأ الحفر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يبث الأمل ويشارك في العمل، وبدأ بعض المنافقين يتسللون بالرجوع بعد إظهار التثاقل والسآمة، وشكك بعضهم في فكرة الخندق نفسها، وأطلق آخرون عبارات التثبيط وإشارات الوهن لترويج الشائعات وبث الفرقة، وتجاسر أحدهم فقال والناس يسمعون بعد أن بدأت طلائع الأحزاب في القدوم حول المدينة: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يقدر أن يذهب إلى الغائط»! وجاء آخرون ليقولوا لأهل المدينة الصابرين الصامدين تحت الحصار )يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا( ويتبجح آخرون بضرورة الرجوع حمية للحرمات )وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً( أما أشدهم خسة وأبلغهم وضاعة، فأقوام لم يكتفوا بجبنهم وتشكيكهم في شجاعة الشرفاء، بل ندبوا أنفسهم إلى جر من يستطيعون إلى صفوف القاعدين وهؤلاء من )الْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً( كل هذا قبل أن يأتي الخوف الحقيقي، فلما جاء )رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ( لقد بدأت تظهر أبعاد المؤامرة، وتبين أن قوى التحالف المعادي للإسلام قد قذفت إلى حدود المدينة بنحو أربعة آلاف من أشداء قريش ومن عاونها من قبائل العرب، ونحو ستة آلاف من قبائل غطفان، إضافة إلى جموع من اليهود الذي حزبوا تلك الأحزاب ودبروا الغارة وأوقدوا الفتنة، لقد استغل الجميع الفرصة وأحاطوا المدينة من جوانبها، وحاصروا المسلمين وراء الخندق الذي لم يقدروا على اختراقه، وطال الحصار قريباً من الشهر، حتى نزل بالمسلمين الخوف والجوع، والبرد والبلاء، وصوَّر القرآن هذه المشاهد في تلك اللحظات الرهيبة الرعيبة.. )إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً(
كان المتصور من جميع الرعاديد الساكنين مع المسلمين أن يتماسكوا أو يتظاهروا بالتماسك في تلك اللحظات المصيرية، ولكنهم مضوا يخذلون ويحذرون ويشككون في كل شيء، حتى في الوعد الصادق من الله ورسوله )وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً( آيات وعظات في السورة التي تحكي واقعة الأحزاب، لم تكن ليتنزل بشأنها وحي ويُتلى في أمرها قرآن؛ لولا أنها تحكي أحوال نفسيات وشخصيات قبل أن تقص أحداث لحظات وساعات، إنها شخصية ونفسية المنافقين في كل زمان ومكان! خيانة وتآمر، ووضاعة وتخاذل وشك فيما وعد الله به، ونقض لما عاهدوا الله عليه )وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً( ولكن هذا الجبن المستحكم سرعان ما يتحول إلى شجاعة مصطنعة وجسارة جبارة تقذف بالسموم من كل نوع على الصادقين العاملين الذين لا يرجون إلا رضا الله، ولا يكون ذلك الهجوم من المنافقين إلا بعد أن يولي الخطر وينقشع الغبار )فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً(
المنافقون ومصانعة النصارى: في ظرف من أدق وأشق الظروف التي مرت على الدعوة الإسلامية في عهد الرسالة نما إلى مسامع المسلمين في المدينة في أواخر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر قوة في الأرض آنذاك تعد لسحق المسلمين في دارهم وطي صفحة الإسلام من التاريخ بتخريب مدنه واجتياح أرضه وتقتيل أهله وتشريدهم، لقد تواردت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نصارى الروم على وشك القدوم؛ فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباغت القوم بالحرب قبل أن يكملوا الاستعداد، وفي وقت نضج فيه الثمر وطاب فيه المقام، مع شدة حر نافست شدة الخوف من الحرب، ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للنفير دفاعاً عن الإسلام المستهدف من أعتى عدو في العالم آنذاك، فاستجاب الصادقون خفافاً وثقالاً رغم المكاره، وأطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديرٍ شجاع لخطورة الموقف، وتحملٍ نادر لجسامة المسئولية؛ فمن المسلمين من سارع فجهَّز نفسه وغيره، ومنهم من لم يجد إلا تجهيز نفسه فقط، ومنهم من لم يجد ما يجهز به نفسه ولا ما يجهزه به غيره؛ فما كان منهم إلا أن )تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ( غير أن هناك من وجد النفقة وتكاليف الجهاز للحرب، إلا أنه لم يجد الرغبة في الالتحاق بالجيش المحارب، انسياقاً مع أماني النفس في الأمان والراحة، والسلامة والدعة.
وهم مع ذلك لم يكونوا من الخائنين ولا الكاذبين رغم قعودهم، في حين أن غيرهم خرجوا كاذبين خائنين، التمسوا في الخروج مع الجيش ساعة تربص بالمسلمين، أو توهين لعزائمهم وحط من علو نفوسهم.
كان النفاق يتوق إلى يوم تتهاوى فيه قلعة الإسلام وتسقط راياته، ودلت أحداث الغزوة أن ذلك الأمل اليائس لم يفارق دخيلة القوم، القاعدين منهم والخارجين، حيث لم يقلَّ شر الخارجين عن شر القاعدين، فأما القاعدون وعلى رأسهم رأس النفاق ابن سلول، فبدلاً من أن يشدوا أزر المجاهدين المستجيبين لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أو يسكتوا على الأقل، إذا بهم يُدخلون عليهم الغموم والهموم بمواقف التحزين وكلمات التخذيل وسوء الظنون.
وهذه ومضات مظلمة من بعض مواقف المنافقين في ذلك الظرف القاهر الحرج: تحادث قوم من القاعدين بغير عذر في المدينة متهكمين على المسلمين، فقال أحدهم: «يغزو محمد بني الأصفر (أي الروم) والله! لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال».
لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه في المدينة ليخلفه في أهله قال المنافقون: «ما خلَّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه».
ليشيعوا الفرقة والفتنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أصحابه وأهل بيته، وقد أحزن ذلك علياً وأدخل الغم على نفسه لما بلغه ذلك.
ضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق أثناء السير إلى تبوك، فأرسل بعض أصحابه في طلبها، فقال أحد المنافقين: «هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته»!
أشار جمع من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم ساخراً: «أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنكم تأتون غداً مقرَّنين».
ولما بلغت مقولتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا )إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ( فأنزل الله تعالى خبيئتهم وأظهر فضيحتهم فقال )قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ( بينما كان حذيفة رضي الله عنه آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم و عمار بن ياسر يسوقها، إذا باثني عشر رجلاً يعترضون الناقة برواحلهم، مزاحمين الرسول صلى الله عليه وسلم رغبة في إسقاطه عن راحلته ليتخلصوا منه، فصاح فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانبهتوا وتفرقوا، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «أتدرون من هؤلاء؟ فقالوا: لا، يا رسول الله، قد كانوا ملثمين» فقال: «هؤلاء المنافقون يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ » قالوا: «لا» فقال: «أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه فيها» فقال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم «أو لا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ » قال: «لا، أكره أن يتحدث العرب أن محمداً قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم»، وهم الذين أنزل الله تعالى فيهم )وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ(
وتجيء قصة مسجد الضرار لتبين أن النفاق لابد أن يتخذ له أوكاراً تضمن له أن يرصد منها ويدبر فيها كل ما تحتاجه حملات وجولات العداوة للدين وأهله )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ( لقد حفلت سورة التوبة التي تسمى أيضاً بـ (الفاضحة، والبحوث، والمبعثرة)، بأخبار النفاق وسلوك المنافقين، لترسخ في أفهام المسلمين أهمية أن يتفقدوا صفوفهم، ويختبروا بطانتهم حاملين قبس القرآن ليكشف لهم بإيضاح وجلاء ماهية ونوعية وسجية المنافقين والكافرين حتى يكونوا منهم على حذر، ويكونوا لجهادهم والتصدي لهم على أهبة واستعداد.
فلا جهاد للمنافقين والكافرين أجدى ولا أكبر من جهادهم بالقرآن وفي ضوء القرآن )فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً(