خطب الجمعة

خلق الرحمة

خطبة يوم الجمعة 7/9/1427 الموافق 29/9/2006

1ـ من أعظم صفات ربنا جل جلاله صفة الرحمة؛ فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تتوسل الملائكة إلى ربها بهذه الصفة {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} فرحمته سبحانه وتعالى بالغة ما بلغ علمه؛ وقد أصابت حتى النملة في جحرها والحوت في بحره، في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزء، وأنزل في الأرض جزء واحداً؛ فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق؛ حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه} وفي لفظ مسلم {إن لله مائة رحمة؛ أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام؛ فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخَّر الله تسعة وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة} وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من السبي تبحث عن ولدها حائرة والهة؛ فلما عثرت عليه ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟} قالوا: لا والله يا رسول الله؛ فقال {الله أرحم بعباده من هذه بولدها}

2ـ ومن آثار رحمته أنه يرحم أهل الذنوب والمعاصي؛ يمهلهم ويؤخرهم لعلهم يتوبون وينيبون، يراهم بالليل والنهار وهم يبارزونه بالمعاصي يسفكون الدماء، ويأكلون أموال الناس بالباطل؛ يهتكون الأعراض ويغتصبون الحقوق؛ ومع ذلك كله فإن رحمته تغشاهم، وكنفه يحيط بهم، رغم أنه عز وجل يغضب على أهل المعاصي، ويغار على حرماته أن تنتهك، ولكن رحمته سبقت غضبه {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون $ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه {إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش} ومن دعاء المؤمنين {رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين}

3ـ وصفة الرحمة من أعظم صفات المؤمنين، وقد أثنى ربنا جل جلاله على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بقوله {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وبقوله {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن رحيماً بعباد الله، شفوقاً عليهم، محباً لهم؛ لأن الله تعالى لا يحب الجبارين ولا المستكبرين؛ ولا الذين يحملون قلوباً قاسية لا تعرف الرحمة إليها سبيلاً {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} قست قلوبهم بأكل الربا وممارسة الزنا وعقوق الوالدين والتناحر

4ـ إن واجباً على المسلم أن يرحم الله خلق الله جميعاً، من الإنس وغيرهم؛ وأولى الناس بالرحمة منه أهل بيته؛ فيشبعهم ويكسوهم ويسكنهم، ويقودهم إلى الجنة ويعرفهم سبلها وأبوابها؛ بل يرحم الحيوان البهيم؛ ففي الصحيحين يحكي النبي صلى الله عليه وسلم خبر الرجل الذي سقى كلباً فشكر الله له فغفر له، وخبر البغي من بغايا بني إسرائيل التي سقت كلباً فغفر لها به، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما خبر المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض

5ـ لما مدح الله نبيه صلى الله عليه وسلم قال {بالمؤمنين رءوف رحيم} وقال {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ومن أمثلة ذلك:

  • إيذاء قومه له ومع ذلك كان يدعو لهم بقوله: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ورحمته بالأعرابي الذي قال له: لا أحسنت ولا أجملت، يأتيه بعض الكفار شانئاً مبغضاً يريد الفتك به؛ فما إن يرى ذلك الجبين الأزهر والوجه الأنور حتى يعود ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين، ورحمته بالبهائم وكل كبد رطبة
  • رحمته بأصحابه في نهيه إياهم عن الوصال؛ وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ورحمته بأمته في ترك المواظبة على بعض السنن، وقوله (أيما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة وطهوراً وقربة) وتظهر تلك الرحمة عياناً يوم القيامة حين يشفع لأمته (إن لكل نبي دعوة مستجابة؛ وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)
  • حين جاءه من يستأذنه في الزنا
  • رحمته بالأطفال في قصة ولده إبراهيم وقصة أبي عمير أخي أنس بن مالك رضي الله عنهم

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى          وفعلت ما لا تفعل الأنواء

وإذا عفوت فقادراً ومقدراً               لا يستهين بعفوك العظماء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب             هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا غضبت فإنما هي غضبة              في الحق لا ضغن ولا شحناء

وإذا خطبت فللمنابر هزة                 تعرو الندي وللقلوب بكاء

صلى عليك الله ما صحب الدجا         حاد وما حنت بالفلا وجناء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى