خطب الجمعة

دمعة على القدس

خطبة يوم الجمعة 13/10/1430 الموافق 2/10/2009

1/ اقرؤوا التأريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيِّئ، ويهودَ اليوم خلف أسوأ، كفَّارُ النعم، ومحرِّفو الكلم، عُبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شُذَّاذ الآفاق، حثالة البشرية، {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبِيلِ} هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، {ويَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ} حلقات من الغدر والكيد، والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية، {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، عملوا له السحر، ودسّوا له السمّ، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}

2/ لا يغيب عن علم المطَّلع على تاريخ النبوات، أن لكل أمة قبلة تتجه إليها في صلواتها وعبادتها، فكما أن لنا نحن أهل الإسلام قبلة هي الكعبة المشرفة، فقد كان لكل من أصحاب الديانات السماوية السابقة قبلة يتجهون إليها {وَلِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وكان هذا التوجه عند أصحاب كل ملة جزءً من شريعتهم، ولكن الأمر الذي جدّ بعد بعثة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أن تلك الشرائع نُسخت وأُلغي العمل بها، وبالتالي: فقد نسخت شرعية كل قبلة يُتجه إليها إلا الكعبة المشرفة، فهي وحدها التي تقبل العبادة بالتوجه إليها، وهي أيضاً لا تقبل إلا من موحد مسلم.

  والمشكلة: أن هؤلاء المتبعين للشرائع المنسوخة لم يعترفوا وخاصة اليهود منهم بذلك النسخ، ولم يؤمنوا بالشريعة التي جاء بها النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وهم بالتالي قد ظلوا متشبثين بالقبلة التي كانوا عليها {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}

3/ إن قبلة اليهود منذ كانوا، وإلى اليوم هي المعبد الذي شيده سليمان عليه السلام، والذي يطلقون عليه (هيكل سليمان)، وهو الاسم التاريخي القديم للمسجد الأقصى قبل أن يتحول إلى إرث الأمة الإسلامية، والمعروف تاريخيّاً أن ذلك المعبد قد دُمِّر مرتين، المرة الأولى على يد الملك البابلي بختنصر عام (587 قبل الميلاد)، والمرة الثانية عام (70 ميلادي) على يد الإمبراطور الروماني طيطس، حيث دمره تدميراً كاملاً، ولم يبقَ منه إلا جزء من السور في الجهة الجنوبية الغربية لساحة المعبد، وهو الجزء الذي ظل باقياً حتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رُبط فيه (البراق) في ليلة الإسراء والمعراج، وهو نفسه السور الذي تسميه اليهود اليوم بـ (حائط المبكى)، وقد جاء ذكر التدميرَين (الأول والثاني) في القرآن الكريم في أول سورة الإسراء.

4/ ولم تسنح الفرصة لليهود طوال ما يقرب من ألفي عام لتحقيق حلمهم التاريخي، إلا في هذا القرن، بعد أن عادوا للاستيطان في أرض فلسطين، وظل حلمهم يقترب من التحقيق شيئاً فشيئاً، حتى اقترب جدّاً باحتلالهم لمدينة القدس بعد حرب عام 1967م، حيث وقع المسجد الأقصى أسيراً تحت أيديهم، ولكن الأمور لم تكن بالسهولة التي يستطيعون معها في الحال أن يُقدموا على إنفاذ رغباتهم المحمومة في هدم المسجد الإسلامي وبناء المعبد اليهودي مكانه، فلجئوا إلى الحيل والمكائد والمؤامرات للوصول إلى ذلك الهدف.

5/ إن شيئاً واحداً هو الذي يوقف ويؤخر القرار الأخير بالهدم على المستوى الإسرائيلي الرسمي، وهو عدم معرفة أبعاد ردود الفعل الإسلامية إذا نفذت المؤامرة، وعلى أي حال فهم يجرون كل مدة (بروفة) لقياس مقادير ردود الأفعال، وهي (مطمئنة) لهم على كل حال على المستوى العربي والإسلامي، فهي لا تعدو أن تكون فورة تتبعها غورة، وكان آخر البروفات: حدث افتتاح النفق. يقول القادمون من الأرض المحتلة: إن السلطات الإسرائيلية تستخدم في أعمال الحفر تحت الأقصى والأبنية المجاورة آلات خاصة، تطلق اهتزازات ذات قوة صوتية عالية، بقصد خلخلة أسس المسجد وتفكيك أركانه المتماسكة، حتى يسهل تداعي أسسه بعد ذلك، إذن: فقدسية المكان لدى اليهود غير قابلة للنقاش، وتأجيل قضية القدس إلى آخر مراحل المفاوضات السلمية، ما هو إلا تضييع للوقت وإعطاؤهم فرصة لتحقيق مخططاتهم.

ماذا لو هدم الأقصى؟ أتصور أن فئاماً من الناس سيفتنون لو وقع الحدث، وسيقولون: كيف هذا والمسجد الأقصى قد نزل بشأنه القرآن، وتواترت بفضله الأحاديث، كيف يتحول إلى معبد يهودي؟ وينبغي أن يقال لهؤلاء: إن المسجد الأقصى قد مرت عليه السنون في مرحلة من التاريخ وصلبان النصارى مرفوعة فوق مآذنه، أيام كان الاحتلال الصليبي، وقد كان مسجداً إذ ذاك، ولم تنتف عنه صفته الشرعية، ولا خصوصياته المسجدية؛ والذي أصابه لم يتعدّ التلوث بأوضار التثليث، ثم عاد لأهل التوحيد عزيزاً مطهّراً، لمّا عادوا إلى التوحيد. فلا بد أن يُعلم أن أرض المسجد مقدسة، ولها أحكامها الشرعية من حيث مضاعفة أجور الصلوات فيها، واستحباب شد الرحال إليها، سواء أكان البناء موجوداً أو غير موجود؛ فالساحة نفسها سُميت مسجداً وقت تنزّل القرآن بآيات الإسراء، ولم يكن ثمة مسجد مقام.

6/ إن المكان أخذ حكم المسجد قبل أن يُبنى مسجداً في الإسلام، وصلى فيه إمام الأنبياء بأولي العزم من الأنبياء في أرض فضاء…فحقائق التاريخ وقصص الأنبياء تدل على أن المسجد الأقصى لم يبنَ مرة أخرى بعد هدمه الثاني بُعيد زمان عيسى عليه السلام حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام، ولما تم الفتح جاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه كعب الأحبار رحمه الله ليدله على موضع مصلى داود عليه السلام ثم بنى هناك مسجداً متواضعاً من خشب، فلما جاء عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، أعاد بناءه على الهيئة التي هو عليها الآن.

وهنا أمر تنبغي الإشارة إليه، وهو ما ورد في الحديث الصحيح بشأن منع الدجال من دخول مساجد أربعة، منها المسجد الأقصى، وذلك في قوله: (.. وعلامته: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، والطور) رواه أحمد في مسنده (5/364) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (47/ 343) وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات فتح الباري (13/105). وهذا يحتمل أن يظل المسجد كما هو، بحفظ الله وحده، أو أنه سيُعاد كما كان إذا أصابه مكروه لا قدر الله أو أن المراد بالمسجد أرض المسجد كما في آية الإسراء.

7/ ما الواجب على المسلمين حتى يُعذِروا إلى الله؟ لا أبالغ إن قلت: إن الفتاوى بذلك قد أخذت أكبر حيز من الإجماع في الفتاوى السياسية بين علماء المسلمين في العالم، منذ أن قدم اليهود إلى القدس. فقد بُحّت أصوات العلماء بالنداء لإنقاذ المسجد الأقصى.. ولكن كم أضاع المنافقون فرصاً لجمع الأمة وتجييشها ضد عدوها المصيري، لتقاتله في سبيل الله تحت راية القرآن الخالد، كما قاتلها هذا العدو في سبيل الشيطان تحت راية التوراة المحرفة. والذي يمكن أن يقال الآن للمسلمين خاصة وعامة أن يتخففوا من الإثم الواقع عليهم بتدارك الأمر في حدود المستطاع وهو كثير لعل الله تعالى يبارك في تلك الجهود، ويقمع كيد اليهود؛ فدعمُ الحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين هو البداية المستطاعة الآن، حتى يأذن الله بأن تدب روح الغيرة في عروق كثير ممن ولاّهم الله أمر هذه الأمة المبتلاة.

8/ معاشر المؤمنين: مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوياً أبد الآبدين {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ  وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي ٱلأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} نعم يا عباد الله، إننا نملك الإيمان بنصر الله لنا، وثقة بتأييده لنا، ويقيناً بسنة الله تعالى في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده الذي وعد به المؤمنين {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} نعم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، نعم عباد الله إنه وعد يشحذ الهمم ويستنفر العزائم ويملأ الصدور ثقة وإيماناً بأن الدور لنا لا علينا وأن التاريخ معنا لا علينا، وإنا لنحن المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون. سنة الله رب العالمين ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة لا يضرها من خالفها، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.

9/ نعم يا مسلمون، فإن قراءة متأنية لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير. فاسمعوا إلى ابن كثير رحمه الله وغيره من أهل السير وهم يسردون لكم ذلك الحدث العظيم في ضحى يوم الجمعة في شهر شعبان لسنة 492هـ: (دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس فصنعوا به ما تصنعه وحوش الغابة، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألف، منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون، وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار وهم فيها فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من أعالي الأسطحة، جاسوا فيها خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيها الخنازير، ونودي من على مآذن لطال ما أطلق التوحيد من عليها، نودي: إن الله ثالث ثلاثة ـ تعالى الله وتبارك عما يقولون علواً كبيراً ـ فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق). وتباكى المسلمين في كل مكان لهذا الحديث وظن اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.

كم طوى اليأس نفوساً لو رأت            منبتاً خصباً لكانت جوهرا

ويمضي الزمن.. وفي سنة 583هـ أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم: “إن القوي بكل أرض يُتقى”

وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تعجّل له هذا الأمر وهذه المكرمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى تقول له:

يا أيها الملـك الذي        لمعالـم الصلبـان نكّس

جاءت إليك ظُلامة        تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طهرت       وأنـا على شرفي أنجس

فصاح رحمه الله: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.

من ذا يغير على الأُسود بغابها                   أو من يعوم بمسبح التمساح

وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم، فتصالح ملوك النصارى وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتقدم صلاح الدين إلى طبرية وفتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته ثم استدرجهم إلى الموقع الذي يريده هو، ثم لم يصل الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم، عندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان، واغبر وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، عشية يوم الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر، وقوي العطش، وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كان تحت سنابك خيل الكفار، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان، وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً.

وذكر أن بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في حبل خيمته، وباع بعضهم أسيراً لنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له الغنم، ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم لفتح بيت المقدس، وفي هذه الاستراحة وقفة، فكيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس يا ترى في هذه الاستراحة؟ إن الرؤوس يا عباد الله لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها إلا يوم عادت البيع مساجد، والمكان الذي يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من الجهة الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة دنانير وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمسلمين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين، فدخل المسلمين بيت المقدس وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان ووحدوا الرحمن، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وفر القسيسون، وأُحضر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله، الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يد تلميذه صلاح الدين. ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل الجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام إحدى وتسعين سنة، فكان مما بدأ الخطيب خطبته بعد أن حمد الله فقال: {فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، فلله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

معاشر المسلمين، إن الأقصى اليوم لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة، فالمؤمن لا يعرف اليأس ولا يفقد الرجاء، إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق في حق نفسه، ثم هو واثق بوعد الله له، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى، وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم، كالحديد يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه ويبقى طيبه.

إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولتعلم أن الوصول إلى القمة ليس الأهم، ولكن الأهم البقاء فيها، وإن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، ولكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ، إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، بالاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من إرهاقه ويأسه، فبالإرادة الحرة القوية الأبية ـ أيها المسلمون ـ يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل له في أحد ما حصل – شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل، وإذا به ينقل المسلمين إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين كانوا حقاً منتصرين، ولولا ملاحقة المسلمين لهم لقضوا على البقية الباقية من المسلمين. وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة فإذا به ينقل الأمة من نقلة إلى نقلة، ومن واقع إلى واقع، في استعلاء على اليأس وترفع عن الهزيمة.

أيها المسلمون، إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل لله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لم يتخلف ولكنه لم يتحقق أبداً على أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله.

حقق الله لنا آمالنا، وعلى الله بلوغ الأمل، واسمعوا عباد الله في الختام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعلمنا أن هذه الأرض بيت المقدس بلاد الشام ستكون موئلاً لأهل الإيمان، كلما تقارب الزمان، والحديث في مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بينما أنا نائم إذا رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فاتبعته ببصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتنة سيكون في الشام)).

وأصرح من هذا ما رواه أبو يعلى كما في مجمع الزوائد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى