الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبيِّ الأمي وعلى آله وصحبه الذين عزَّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد.
فبعدما ذكر ربنا جل جلاله صفات المتقين في صدر سورة البقرة أعقبها بذكر الكافرين الذين عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود؛ فقال جل من قائل {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون + ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} بيَّن ربنا جل جلاله أن الكفار الفجار سواء عندهم الإنذار وعدمه لأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا ليسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}
قلوبهم قد ختم عليها، وكذلك أسماعهم وعلى أبصارهم غشاوة؛ وقد بدأ بالقلب لأنه أشرف الأعضاء وأعظمها تأثيراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» والنصوص كثيرة في وجوب العناية به ومراقبة حاله لأنه سريع التقلب، وقد قيل: ما سُمِّي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل. ما سُمِّي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلَّب. حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ؛ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ؛ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا! وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الإِسْلاَمُ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا» رواه البخاري ومسلم
القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبَّر به عن العقل ، قال الله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي عقل، لأن القلب محلُّ العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محلُّ القلب، والصدر محلُّ الفؤاد
قال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} وقال في الحمية {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} وقال في الانصراف {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} وقال في القساوة {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وقال في الموت {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} وقال {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} وقال في الرين {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقال في المرض {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقال في الضيق {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وقال في الطبع {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} وقال {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقال في الختم {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}
الكفر في اللغة: التغطية والستر، والكفر شرعًا: ضد الإيمان، فإن الكفر: عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل مجرد شك وريب أو إعراض أو حسد، أو كبر أو اتباع لبعض الأهواء الصادة عن اتابع الرسالة. وإن كان المكذب أعظم كفرًا، وكذلك الجاحدُ والمكذِّب حسدًا؛ مع استيقان صدق الرسل
الكفر نوعان: النوع الأول: كفر أكبر يخرج من الملة، وهو خمسة أقسام:
القسم الأول: كفر التكذيب، والدليل قوله تعالى {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين }
القسم الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، والدليل قوله تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}
القسم الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل قوله تعالى {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا + وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا + قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلًا + لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدًا}
القسم الرابع: كفرُ الإعراض، والدليل قوله تعالى {والذين كفروا عما أنذروا معرضون}
القسم الخامس: كفر النفاق، والدليل قوله تعالى {ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}
النوع الثاني: كفرٌ أصغرُ لا يُخرجُ من الملة، وهو الكُفرُ العملي، وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة كفرًا، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، مثل كفر النعمة المذكور في قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله} ومثلُ قتال المسلم المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر” رواه البخاري ومسلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض” رواه الشيخان. ومثل الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم “من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك” رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
وملخصلى الله عليه وسلم الفروق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر:
1 ـ أن الكفر الأكبر يخرج من الملة، ويحبط الأعمال، والكفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال، لكن ينقصها بحسبه، ويعرض صاحبها للوعيد.
2 ـ أن الكفر الأكبر يخلد صاحبه في النار، والكفر الأصغر إذا دخل صاحبه النار، فإنه لا يخلد فيها؛ وقد يتوب الله على صاحبه، فلا يدخله النار أصلًا.
3 ـ أن الكفر الأكبر يبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يبيح الدم والمال.
4 ـ أن الكفر الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنهُ لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحَبُّ ويُوالى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويُعادى بقدر ما فيه من العصيان.
توجيهات عقيب ارتفاع الأسعار
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعموم الناس: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخرة فلا يبيتن ليلة شعبان وجاره طاو»
الحاكم الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة وإلي اليتيم من ماله، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت” فإن الظالم المستبد ينزل نفسه من مال الله منزلة السارق الخائن الذي إن أمن الرقيب وأنس من الناس غفلة امتدت يده لما لا بحل له من مال الله يبعثره ذات اليمين وذات الشمال، ويأكله إسرافاً وبداراً أن يزول ملكه وتدول دولته، ويشترك معه في ذلك الحاشية والصحابة والقرابة، ولو جاءتهم كل آية فما هم بمنتهين.
وسبحان الله! إذا كانت شريعة الإسلام توجب على جماعة المسلمين صيانة موتاهم وتجهيزهم وسترهم، فماذا هي قائلة عن حكام لا يتقون الله في الأحياء فلا يحفظون مهجهم ولا يداوون مرضاهم ولا يتداركون حشاشة فقرائهم ولا يكفلون يتيما ولا يطعمون مسكينا ولا يفكون أسيراً؟! ثم بعد ذلك الثروات منهوبة والأموال مهدرة والعدالة غائبة.
في ترجمة الأمين يقول المؤرخون: “كان سيئ التدبير، كثير التبذير، ضعيف الرأي أرعن، لا يصلح للإمارة، فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة”.. قلت: ما أكثر أشباهه وأمثاله من حكام المسلمين المعاصرين.
ولا بد من إجراءات تعيد ثقة الناس وتضمن لهم بعض حقوقهم ومن ذلك:
- منع الإنفاق اللامحدود على أمن الحاكم والحرس والجنود، ولا يمكن أن يربو أحيانا على ميزانية التعليم والصحة وما إلى ذلك من ضرورات الحياة وحاجياتها. وفي مقابل ذلك أذكر حال خليفة عرف حق الله وحق العبادة فاداهما جميعاً غير مفرط ولا مضيع وهو عمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه- كان للخليفة قبله ثلاثمائة حرس وثلاثمائة شرطي، فقال عمر للحرس –بعدما ولي الخلافة- إن لي عنكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله
- تبذير الأموال على الأحفال والأعياد والأمجاد الشخصية للحاكم، فتارة يحتفل بيوم مولده، ويلزم الرعية بمشاركته في ذلك، وتارة بعيد جلوسه كما يسميه، وتارة بيوم تفجير ثورته المباركة التي أهلكت الحرث والنسل، ولو ذهب الزعيم إلى خارج البلاد مستشفياً ثم عاد فيالهول ما ترى عيناك من الزخارف والأنوار، ليخرج على الناس في زينته ولسان حاله يقول كما قال الأول: (إنما أوتيته على علم عندي). هذا وهو يعلم –يقيناً- أن من بين رعيته الفقير المحروم، والأسير المقهور، والجائع المكدود، واليتيم المجهود، لكنه يغض الطرف عن هذا كله في سبيل إرضاء نزوته.
- تخصيص الأموال الطائلة والنفقات الباهظة لتمويل الصحف والمجلات والدوريات المسبحة بحمد السلطان المنافقة له، وبذل كل ما يستطاع في سبيل شراء أكبر قدر من الذمم والأقلام التي تتقرب إلى الحاكم زلفى بتزيين الباطل له وترويج إفكه وضلاله، وتصوير هزائمه على أنها انتصارات وإخفاقاته على أنها إنجازات، وفي الوقت نفسه رمي خصومه بالإفك وهجاء معارضيه بالباطل ورميهم بكل نقيصة كما قال زبانية فرعون لفرعون: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك). وهي ذات المهمة التي كان يقوم بها الشعراء قديماً في بلاط الخلفاء لينالوا الجوائز والهبات السخية، عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، حتى أبطل تلك السنة السيئة التي راجت زمان بني أمية الخليفة العادل عمربن عبد العزيز رضي الله عنه قدم عليه جرير بن عطية الخطفي فطال مقامه ببابه ولم يلتفت إليه عمر، فكتب إلى عون بن عبد الله وكان خصيصاً بعمر:
يا أيها القارئ المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى بابك كالمصفود في قرن
ولما تيسر له الدخول على عمر ذهب ليقول، فنهاه عمر، فقال: إنما أذكر رسول الله قال عمر: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذكره، فقال:
إن الذي ابتعث النبي محمداً جعل الخلافة للأمير العادل
رد المظالم حقها بيقينها عن جورها وأقام ميل المائل
والله أنزل في القرآن فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مغرمة بحب العاجل
فقال له عمر: ما أجد لك في كتاب الله حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين، إنني ابن سبيل، فأمر من خاصة ماله بخمسين دينار[1].
- بناء القصور والمساكن والاستراحات والدور داخل البلاد وخارجها المبالغة في ذلك بغير ضرورة ولا حاجة حتى عادت تلك القصور مضرب الأمثال في ضخامته وفخامتها، ولربما لا يأتيها – بعد ما تبنى- إلا قليلاً، أو قد لا يأتيها أصلا. وحالهم كحال أسلافهم الذين أنكر الله عليهم بقوله: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين). فهم يبنون ما لا يسكنون ويجمعون ما لا يأكلون ويؤملون ما لا يدركون، والمسكين لا يدري أنه عما قليل سينزل به ملك شديد غليظ ينقله من سعة قصره إلى ضيق قبره حي لا يجد هنالك داراً ولا قصراً سوى بيت الظلمة والوحشة والدود.
- الصرف على التوافه التي لا تبني مجداً ولا ترفع دينا، بل الغاية منها أشغال الناس بغير شاغل، وتفريغ طاقة الشباب في غير طائل، وصرف الهمم عن معالي الأمور إلى سفافسها. وطوف بناظريك في جنبات عالمنا الإسلامي العريض لترى كم من الأموال تنفق على بناء المدن الرياضية والأندية الكروية؟ وكم هي مخصصات المدربين –خاصة من الكفار-؟ وبكم يشترى اللاعب؟ وكم يعطى الفريق القومي حين يفوز؟ ثم بعد ذلك المسارح ودور السينما والحفلات الراقصة وجوائز أهل الطرب والمجون. فلا إله إلا الله كم من همة عالية وضعوها، وكم من قيمة رخيصة أعلوها، وكم من سافل رفعوه، وكم من عزيز نابغ ضيعوه؟ حتى عاد هم كثير من الناس أن يكون لاعبا مشهوراً أو راقصاً ماهراً، وصرفت قلوبهم عن العلوم النافعة والمهارات الرفيعة.. وإلا فالسؤال البدهي الذي يطرح: أين الأموال المرصودة والجوائز المبذولة لحفظة القرآن ومعلمي الناس الخير والنابغين في العلوم الشرعية أو التجريبية؟ وإن وجدت فما هي نسبتها إذا ما قورنت بالأموال التي ترصد للاعبين والمدربين والطبالين والبطالين؟ لا شك أن كل امرئ ينظر في الأمر نظراً سريعاً يعلم أن الخيانة حاصلة وأن هنالك خطة مدروسة لتضييع ثروات الأمة على مثل هاتيك التوافه.
- من أعظم مظاهر الاستبداد في عالمنا الإسلامي المعاصر أن الحاكم لا تعرف الرعية مخصصاته: ما هي حدود مرتبه؟ كم عطاؤه؟ ماذا يملك قبل الحكم؟ وماذا طرأ عليه بعده؟ بل لو سأل سائل عن ذلك لقيل له: لقد جئت شيئاً إداً. تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.” مع أن بلاد الدنيا كلها –أعني غير الإسلام- تعطي الرعية هذا الحق، لكن المسلمين منه محرومون. أخرج ابن سعد عن ميمون بن مهران[2] قال: “لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة”[3]. وأخرج –كذلك- عن البراء بن معرور أن عمر خرج يوما حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى[4]، فنعت له العسل، وفي بيت المال عكة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فهي علي حرام فأذنوا له.
ولما سئل –رضي الله عنه- ماذا يحل للخليفة من مال الله تعالى؟ قال: إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتان، حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به واعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين.
قال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له، واشترط عليه ألا يركب برذونا ولا يأكل نقياً ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة. أقول: حكام المسلمين المعاصرين يركبون البراذين ويأكلون النقي ويلبسون الثياب الرقاق. لكن تعرف الرعية كم يملك الحاكم من مال، وماذا يحق له من مخصصات؟.
[1] – السيوطي –تاريخ الخلفا 239.
[2] – أبو أيوب ميمون بن مهران الجزري، مولده سنة أربعين، وولى الخراج لعمر بن عبد العزيز، وكان عالم الجزيرة ومفتيها وتوفي سنة 117هـ. انظر: حلية الأولياء 4/82، سير النبلاء 5/71، تذكرة الحفاظ 1/97، البداية والنهاية 9/314.
[3] – السيوطي – تاريخ الخلفاء 78.
[4] – عاني من علة ومرض.