1- فإن الله تعالى بعث الرسل {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وكانت بعثة هؤلاء الرسل حينا بعد حين من أجل إبلاغ دعوة ربهم وإقامة الحجة على الخلق {ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون} وضمن للعباد ألا يعذبهم إلا بعد بلوغ الدعوة إليهم كما قال سبحانه {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وذلك حتى تنقطع حجة أولئك الذين يريدون الاعتذار عن شركهم أو تركهم الالتزام بمنهج الله عز وجل {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون} وكل هؤلاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بالدعوة إلى عبادة الله وحده وخلع الأنداد والطواغيت، فكل الرسل دعا إلى الله الحق الذي له الخلق والأمر {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وأن كل آلهة سواه تطاع وتعبد إنما هي آلهة باطلة زائفة {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وأن الله سبحانه وتعالى هو مالك الملك المتصرف بكل شيء، هو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
2- وهذه هي العقيدة التي حملها المسلمون الأولون إلى أقطار الأرض؛ ونطق بها ربعي ين عامر وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، وظهر أثرها في كلامهم مع قائد الفرس رستم، قال رستم لربعي بن عامر: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منا ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله!! قال: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي. ولما سأله رستم بعد نقاش: هل أنت سيد قومك؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم.
وفي اليوم الثاني بعثوا إليه حذيفة بن محصن رضي الله عنه فجاء حتى وقف على بساط رستم؛ فقال له: ما جاء بكم؟ قال: إن الله عز وجل منّ علينا بدينه وأرانا آياته، حتى عرفناه، وكنا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (الجزية) ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة.
فلما كان من الغد أرسل رستم إلى المسلمين: ابعثوا لنا رجلاً، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة، فأقبل المغيرة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبُسُطُهم على غلوة (قدر رجعة السهم) لا يصل إلى صاحبهم، حتى يمشي غلوة، وأقبل المغيرة حتى جلس على سريره ووسادته فوثبوا عليه وأنزلوه وضربوه ضرباً ليس شديداً، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أَسْفَه منكم! إنّا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السِّفْلَة: صدق والله العربي، وقال الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغِّرون أمر هذه الأمة. ثم تكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه، وردَّ على رستم كلامه.. ثم ذكر مثل الكلام الأول.
3- هذه الكلمات تعلمها ربعي بن عامر وحذيفة بن محصن والمغيرة من شعبة من كتاب ربهم جل جـلاله، من القصص التي ساقها الله عز وجل عظة وعبرة، حين ذكر الفراعنة والجبابرة والطواغيت الذين عُبدوا من دون الله وصادفوا من رعيتهم خنوعاً وذلاً وطاعة وانقيادا وهم الذين قالوا لفرعون {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}
4- فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم حين دعوا إلى الله تعالى انقسم الناس في أمرهم إلى أصناف ثلاثة: صنف طهر الله نفوسهم من الكبر وفتح قلوبهم للهدى والخير؛ فآمنوا بالحق المبين وعاشوا من أجله وماتوا عليهم {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} وهم الذين ضمن الله لهم الأمن {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} وهم الذين تولاهم الله بحفظه وكلاءته {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}
وصنف امتلأت نفوسهم كبراً وغروراً، ومردوا على الشقاق، واستعلوا في الأرض بغير الحق.. أولئك هم الذين ماتت ضمائرهم، وقست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فأشربوا الكفر والعناد بطغيانهم، فوقفوا بكل عناد يعارضون دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ويحاربونها بكل وسيلة يمكن أن تتفتق عنها عقولهم الشيطانية الماكرة
وصنف لم يكن لهم إيمان الصنف الأول وأخلاقه العالية ونفسه الطيبة التي تدفع إلى الإيمان، ولم يكن لهم جرأة الصنف الثاني المكذبين للدعوات، ولكنهم شر منه، يشتركون معهم في خبث النفس وفساد الفطرة والطوية والحنق على الرسل، ويمتازون عنهم بالجبن والخور وضعف القلب، فلا يستطيعون أن يصارحوا بأنهم العدو اللدود، ولا أن يظهروا أمام المؤمنين بذلك المظهر فيضطرهم ضعف عقيدتهم وفقدانهم للجرأة أن يداروا ويواربوا، فيكونون بين الصديق والعدو والمناصر والمحارب، إذا رأوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان، وإذا لقوا الكافرين قالوا لهم: إنّا معكم.
5- سحرة فرعون عندما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وسرى نور الإيمان في نفوسهم، لما رأوا البينات من ربهم بعدما كانت آمالهم معلقة بفرعون يخشون غضبه ويرجون رضاه، غاية همهم أن ينالوا القرب منه ويصييوا من دنياه، كانوا قبل قليل يطلبون من فرعون بكل ذلة وطمع أن يجعل لهم أن يجعل لهم شيئاً من الأجر والمال إن كانوا هم الغالبين لموسى وهارون! وفرعون يمتنُّ عليهم فيعدهم بذلك، ويزيد تفضلاً عليهم ومنة، فيعدهم أيضاً بالقرب منه، كأن يجعلهم من حاشيته وبطانته ومستشاريه الخاصين!! ولو كان عنده إذاعة وتلفزيون وصحف ومجلات، كما يمتلك ذلك طغاة العصر، لكانوا أول من يظهر على شاشة التلفزيون بجانب فرعون وهامان، أما الإذاعة فتخصص الساعات الطوال لتبث عنهم ولهم الأحاديث من زخرف القول، ولظهرت الصحف والمجلات محلاة بصورهم الملونة، ولتسابق الصحفيون لإجراء المقابلات والأحاديث الصحفية مع أولئك الأبطال، الذين غدوا من أركان الدولة، ولهم الفضل في تثبيت كرسي الحكم لفرعون! ولكن ذلك كله لم يحدث، فإرادة الله تعالى وقدره شاءت غير ذلك، فتغيرت الصورة كلها، وتغيرت النفوس، واختلف الموقف ووقع ما لم يكن بالحسبان، وانقضت كلمات المؤمنين لما آمنوا كالصاعقة على رأس فرعون. ويحكي الله تعالى لنا الموقف في كتابه الكريم، فيقول: {وجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إنَّ لَنَا لأَجْراً إن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وإنَّكُمْ لَمِنَ المُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * ومَا تَنقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقال سبحانه {قالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقَى * إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يَحْيَى * ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى}
الخطبة الثانية
فغداً إن شاء الله تعالى هو يوم عاشوراء الذي رغَّبنا رسول الله صلى الله عليه وسـلم في صيامه، وقد كثر سؤال الناس عن صيام يوم السبت وهل يجوز أو لا؟ استدلالاً بحديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء بنت بسر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاءَ عنب، أو عود شجرة فليمضغها» وقد اختلف أهل العلم في تصحيحه وتضعيفه فنقل ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد 2/79 عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال فيه: هذا كذب. وقال أبو داود: هذا حديث منسوخ. والذي عليه جمهور العلماء أن صيام يوم الجمعة والسبت منهي عنه إذا كان لقصد معنى فيهما من تعظيمهما أو اعتقاد فضل الصوم فيهما، أما من صامهما لأمر آخر رغَّب فيه الشرع وحث عليه كيوم عرفة أو عاشوراء أو وافق صوماً يعتاده كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً، أو وُجِدَ سببٌ مشروع للصيام كمن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه غائبُه أو يُشفى فيه مريضُه، فوافق يوم الجمعة أو السبت مثلاً فليس بممنوع بل مشروع، وهذا القيد مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم {لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه} رواه مسلم، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من اعتاد الصيام في يوم معين أن يصومه ولو وافق ذلك اليومَ السابق لرمضان.
ويمكن الخروج من الخلاف في ذلك بأن يصوم معه يوماً قبله أو يوماً بعده كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن يوم عاشوراء مخالفة لليهود، وخلاصة القول: أن في المسألة سعة وما ينبغي شغل الناس بها وتفريق جماعتهم أو حملهم على رأي بعينه بل يسعنا ما وسع سلفنا، والله تعالى أعلم.