1ـ أن نهايات الظلمة الطغاة تتكرر على الناس كل حين لأخذ العظة والعبرة؛ فإن في كوامن النفس البشرية من شهوة الظلم والطغيان والبغي ما فيها لولا أن الدين والأخلاق والتربية تهذبها، وتردها إلى رشدها، وتقبح لها الظلم والطغيان .. إن الواحد من هؤلاء الطغاة يمكث على سدة الحكم سنين عددا يسوم الناس سوء العذاب، حتى إذا فاض الكيل وطفح مله الناس وكرهوه، فيخرج عليهم يعدهم ويمنيهم ((بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) وينبغي ألا يعزب عن بال المؤمن المعتبر أن الطغيان والظلم إن كان صفة بشرية ملازمة للإنسان ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)) فإنه لا يظهر عليها إلا حال القدرة على الظلم بامتلاك السلطة والنفوذ.. وكل بحسبه؛ فطغيان الرئيس أظهر من طغيان الوزير وأكثر أثرا، وطغيان الوزير أظهر من طغيان المدير.. وهكذا .. وليس الطغيان والظلم خاصاً بأصحاب الولايات العظمى بل قد يظلم الضعيف من هو أضعف منه، ومن هم تحت ولايته من زوج وولد ونحوهم، ويطغى عليهم بسلطته، فليفتش كل واحد عن قلبه، وليتفحصه جيداً؛ ليطفئ جذوة الظلم والطغيان فيه بماء العبودية لله تعالى، والخضوع له، واتباع شريعته التي أمرت بالعدل والإحسان، ونهت عن الظلم والطغيان.. وكثيراً ما يكون الإنسان غافلاً عن ذلك، فيرى مصارع الظالمين، ويسمع عن نهايات الطغاة فيحمد الله تعالى الذي عافاه مما ابتلاهم به، وهو فيه ما فيهم من الظلم والطغيان لكن لم يُمكن له، فوقع في ظلم على قدر نفوذه وقدرته..
2ـ أنه مهما بلغت قوة الطاغية وقبضته الحديدية على شعبه، فإن سقوطه إذا أراد الله تعالى سيكون بحيث لا يتوقع، وتلك سنة الله تعالى في الظالمين أن يذلهم على أيدي أقرب الناس إليهم، ويسقطهم بأهون الأسباب عليهم، ((إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ)) ((فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)).
3ـ أن حلاوة السلطة والجاه والمال والأمر والنهي تتبدد عند أول دركات الخوف، وتنتهي فور علمه بفقدانه لسلطانه، وتستحيل إلى مرارة وألم يتمنى صاحبها إذ ذاك أنه لم يلِ من أمر الناس شيئا.. بل يتمنى الموت ولا يجده، فما أشد الذل والهوان بعد العز والجبروت.. ولا بد لكل صاحب ولاية أن يستحضر أثناء استمتاعه بحلاوة تسلُّم ولايته مرارة انتزاعها منه؛ لئلا يبطر على الناس فيظلمهم ويمارس طغيانه عليهم.. وأنى للجهلة والغافلين تذكر ذلك؟ّ! وأنى لهم تذكر آيات الله تعالى المرهبة من جميع أنواع الظلم بما فيه رفض الشريعة الربانية وتقديم الأهواء البشرية عليها ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)) وهذا التذكير الرباني نسمعه في كل جمعة تقريبا. ويتبرأ من الطاغوت كل من له به صلة من قرابة وصداقة ومصاهرة وغيرها؛ لأنهم يصبحون هدفاً للجماهير الهادرة الغاضبة لصلتهم بالطاغية المستبد، فهم شركاء في الغرم كما كانوا من قبل شركاء في الغنم..
فإذا كان هذا الذل والهوان يحيط بصاحب الولاية في الدنيا حال انتزاعها منه ببراءة الناس كلهم منه؛ فكيف بذل الآخرة وخوفها وحسابها وشدة العقاب فيها، وكيف به وهو يرى صفوف المظلومين وازدحامهم يطالبون بالقصاص ممن ظلموهم من جبابرة الأرض وسلاطينهم، فيا لله العظيم.. ما أرهبه من موقف من استحضره فلن يفتر لسانه سائلا ربه خمول الذكر، ووضاعة نفسه عن الجاه في الدنيا ((وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)) ولولا ضعف الإيمان وكثرة النسيان لما ولي مؤمن من أمر الناس شيئا خوفا من التبعات.
4ـ أن الحبل الغربي الممدود للطغاة والمستبدين يقطع عنهم عند حاجة الطغاة إليه؛ لأن الغربيين يستعملون هؤلاء الطغاة مناديل لمسح أوساخهم، فإذا سقط الطاغية تخلوا عنه وهو في أمس الحاجة إليهم، وقد كان شاه إيران عبد أمريكا وبريطانيا، وراعي لبراليتهم ومسوقها في منطقة الشرق الإسلامي، وشرطيهم فيها، وعينهم على حكوماتها، وأمينهم على مصالحهم فيها، ولما انتهت صلاحيته، أخرجوا الخميني بعد تفاهمهم معه من فرنسا ليقود الثورة ضد عميلهم الشاه، الذي ظل يستجدي دولة تؤويه ليموت فيها، فرفضته الدول الكبرى لتستقبله مصر فيموت فيها، وطاغية تونس لم تستقبله فرنسا التي كان ينفذ أجندتها الفرنكفونية إلى آخر لحظة من حكمه إذ رفضته ولم تستقبله، ومنت عليه السعودية بشروطها، فما أهون العملاء الطغاة على سادتهم الغربيين يلفظونهم ويتخلون عنهم في أشد الظروف قسوة!!
5ـ أنه لا تأمين للمستقبل إلا في التعامل مع الله تعالى، وأي تأمين للنفس أو الولد بغير الله تعالى فمصيره الخذلان والضياع ((فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك} {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} فأكثر الظلمة الطغاة حين ينهبون ثروات شعوبهم ويستبدون بالأمر دونهم، ويقهرونهم في معيشتهم، ويتخذونهم سخرة لهم ولذويهم فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لعلمهم أنه لا دوام لهم في السلطة التي حتما ستنتقل إلى غيرهم، فعند تقلدهم لمقاليدها تكون عين الواحد منهم اليمنى على خزائن الدولة وثرواتها لنهب أكبر قدر منها، والعين اليسرى على التجار الناجحين لإدخال ذوي الرئيس شركاء لهم في أرزاقهم بالقوة .. هذا غير الجباية المستمرة من أرزاق الناس وأقواتهم عبر المكوس، وكل ذلك لتأمين مستقبل أهله وولده .. ولكن الطغاة يجهلون أنه لا أمان للعبد إذا أراد الله تعالى خوفه، ولا غنى له إن أراد فقره .. وصدام حسين قتل أولاده أمامه، وشاهد مقتلهم وهو مختبئ في حفرة لا يملك لهم شيئا، وشردت بناته، وصودرت أمواله.. وقبله شاه إيران الذي جمع خمسة وثلاثين مليار دولار، سقطت كلها بسقوطه وتحفظت البنوك الدولية عليها بعد انتهاء حكمه، وقبل أيام انتحر ابنه علي في أمريكا.
وفي المقابل لما حضرت الوفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقد كان شديد التوقي في بيت المال، قيل له: لو أوصيت لأحد بولدك فلا مال لهم، فقال رحمه الله تعالى: وصيي وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق.. وهو يتولى الصالحين، وورث كل واحد منهم من أبيه وهم أحد عشر ابناً تسعة عشر درهما فقط، وتتابع الرواة والمؤرخون يرقبون حالهم بعد مقولة أبيهم فما افتقر منهم أحد، ومنهم من حمل على مئة فرس في سبيل الله تعالى من الغنى والجدة..
إن على من ولي ولاية صغيرة كانت أم كبيرة أن يتقي الله تعالى في أموال المسلمين، فلا يبددها على ذويه، ولا يتصرف في ولايته كأنها ملكه وملك ولده، ومن أقلقه مستقبل أولاده من بعده فليعلم أنه لا أمان لهم إلا بالله تعالى، وأمان الله تعالى لا ينال بمعصيته، وبسلب بيت المال ومقدرات الشعوب.. فهاهم أولاء ملوك العالم المخلوعون والمقتولون أين ثرواتهم الطائلة؟ّ! وما خلفوه لزوجاتهم وأولادهم؟! لقد ذهب مع ذهابهم، وسلط عليه من هم أقوى منهم فحجروا عليه أو نهبوه..
6ـ أنه لا يجمع على الشعوب بين الكفر والفقر، وإلا ثارت على زعمائها، فالشعوب قد ترضى بسلب دينها إبقاءً لدنياها، أو بسلب دنياها مع بقاء دينها، أما أن يسلب الاثنان فمحال أن تسكت.. وأوروبا في ثورات الحرية حين سلبت من الشعوب الغربية دينها النصراني المحرف أغنتها من جهة الدنيا فرضيت واستكانت، ولو لم تغنها لثارت، فلا يحتمل الإنسان ضياع دينه ودنياه دفعة واحدة..
وأكثر الحكومات العربية تريد سلب شعوبها دنياها بنهب الثروات، وتسهيل الامتيازات للشركات الغربية التي تمارس السطو الكبير على ثروات العالم العربي والإسلامي ومقدرات الشعوب فيها عن طريق وكلائها وعملائها حتى أفقروها، وطاردوا المساكين في أقواتهم ودوائهم وحليب أطفالهم.. وفي الوقت ذاته يريدون سلب دينهم عبر علميات التغريب والمسخ الليبرالية التي تنشط في العالم الإسلامي بشكل قوي جدا لمكافحة المد الإسلامي السلفي الذي ظهرت شعائره على السطح الأوربي بانتشار شعيرة ستر المرأة وجهها، وشعيرة إعفاء اللحى.
فالشعوب المستضامة قد تصبر على فقرها وعوزها استبقاء لدينها، وترى أنها إن فقدت الراحة في الدنيا فهي موعودة بالجنة في الآخرة، وأما إن ضُيِّق عليها في دينها مع التضييق عليها في دنياها فماذا أبقى الطغاة لها؟! ولن تكون النتيجة إلا ثورة عارمة لا تبقي ولا تذر، كما وقع في تونس.. ولذا فإن التيارات الليبرالية حين تسارع في فرض المشروعات التغريبية، وتفرضها بالقرار السياسي، والاستبداد البوليسي في بلاد المسلمين فهي تسعى لإثارة الشعوب وتحريضها على الثورة على حكوماتها ونشر الفوضى فيها، وتعجل بسقوطها قصدت ذلك أم لم تقصده، وهاهم أولاء دعاة الفرنكفونية الفرنسيين المغاربة الذين كانوا يطيرون بطائراتهم الخاصة للإشراف على مصالح فرنسا في المغرب العربي، ويوصون الحكومات المغاربية باستئصال الدين الإسلامي من نفوس أبنائه.. هاهم أولاء يتمتعون بالعيش الرغيد في فرنسا، ولم ينفعوا الرئيس التونسي لما سقط ولا حتى باللجوء السياسي في بلدهم التي يخدمونها، وتركوا الشعب التونسي يواجه مصيراً مظلماً لا يدري متى يخرج من نفق هذه الأزمة المفاجئة.
7ـ أن الطغاة المستبدين وأعوانهم لا يكفيهم ما أحدثوه من خراب في البلاد، وظلم للعباد في فترة حكمهم التي قد تمتد إلى عقود كثيرة، إذ يعمدون في الرمق الأخير لحكمهم إلى سياسة الأرض المحروقة حال مغادرتهم للبلاد، وينشرون الفوضى في أرجائها، من باب مبدأ: عليَّ وعلى أعدائي، وتكون الشعوب ضحية لهذه السياسة القذرة، وليس بعيداً عن الذاكرة ما فعله جنرالات فرنسا في الجزائر حينما كانوا يشكلون مليشيات وعصابات متخفية تقتل الناس باسم الجماعات المسلحة الإسلامية للانتقام ممن صوتوا لجبهة الإنقاذ من جهة؛ ولتشويه صورة الإسلام والمنتسبين له من جهة أخرى، حتى ظهرت شهادات عدد من الضباط والجنود الجزائريين الذين فضحوا جنرالات فرنسا وما يمارسونه من سياسة الأرض المحروقة كشهادة حبيب سويدية في كتابه: الحرب القذرة.. وفي أحداث تونس ذكر النقيب أحمد عبد المولى أن خلايا الأمن الرئاسي تحدث فوضى ونهب واعتداء في شوارع تونس.. وذلك بعد هروب الرئيس بن علي..
ومثل هذه التصرفات الحقيرة من أزلام الرئيس هي إصرار على التخريب والتدمير، فإما أن تكون البلد في قبضتنا البوليسية الاستبدادية أو ندمرها على أهلها..
ولأن ما وقع في تونس قد يتكرر في بلد إسلامي آخر فإن الواجب على الناس الصدور عن العلماء والعقلاء في حال حدوث مثل ذلك؛ لئلا تدب الفوضى ويستحر القتل في الناس، كما يجب على العلماء في البلاد الإسلامية دوام التواصل مع أهل الرأي والفهم السياسي من المخلصين سواء كانوا أكاديميين أم ذوي أحزاب أم مستقلين؛ فمن الملاحظ أن ثمة قطيعة أو فتوراً في العلاقات بين أصحاب التخصصات السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها وبين العلماء والدعاة في أكثر الدول الإسلامية إن لم يكن كلها، فإذا ما وقعت أزمة سياسية كالتي تحدث في تونس الآن لم يوجد من يملأ الفراغ السياسي، وأضحى الناس فوضى لا سراة لهم، وربما اختطف الدولة وقطف ثمار الثورة من هم مثل من ثار الناس عليه أو أسوأ منه، فيعود الناس كما كانوا من قبل..
8ـ أن الطغاة والمستبدين مهما سخروا من وسائل إعلامية لتلميع صورتهم أمام الناس فإن الله تعالى يفضحهم، ويكشف للناس خبيئتهم، ويهتك على الملأ سترهم.. وقد كان الاتحاد السوفيتي زمن التسويق الاشتراكي في حكم لينين وستالين ينتج ربع الإنتاج العالمي الثقافي كتبا وصحفا ومجلات وبكافة اللغات، حتى سوق للاشتراكية وغزا بها أكثر الدول، واقتحم بها الشعوب.. ثم ما لبث أن فضح شر فضيحة وسقطت الاشتراكية في مهدها، وتتابع أذنابها بالسقوط بعدها.. وكلما قرأت لمشايخ من الجمهوريات الإسلامية أو من الأزهر أو من الشام في الكتب التي نشرت أيام المد الاشتراكي أعجب كيف أن هذه القوة المستبدة استطاعت أن تسخرهم أبواقا لها.. فزالت هذه القوة، وماتت أبواقها الشرعية، وآثارهم لا تزال شاهدة عليهم، فاللهم ثبتنا على الحق.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم..