قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُصَوَّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ، جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ! «مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا فَطُمِسَتْ.
1- أمة: قال تعالى )إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً( وهذه الكلمة تأتي لعدة معان، منها الجماعة )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً( ومنها الزمان والحين )وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ( ومنها الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس، وهذا هو المقصود في حق إبراهيم، وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة وخلق حري بأن يحتذي به الدعاة في حياتهم وتزكية أنفسهم، واجتهاد أحدهم في تقويم أخلاقه والنشاط في دعوته ليقوم مقام أمة في ذلك. وقيل: إن المقصود بالأمة هنا أي الإمام، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري وابن كثير.
2- قانت: قال تعالى )إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً( والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، وكذا يجب أن يكون الداعية ملازماً لطاعة الله على كل حال، فلا يكون كالمنبت يجتهد حتى تكلّ راحلته، ثم ينقطع، بل يلازم ويستقيم.
3- حنيفاً: والحَنَف: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل، والجنف: ضده. والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل: مجرد الميل. قال ابن كثير: الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد. وقد كان ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال تعالى )ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ( وقال )ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ( وهكذا فليكن أولياء الله.
4- شاكر: قال تعالى )شَاكِراً لأَنْعُمِهِ( أي قائماً بشكر نعم الله عليه (وأصل الشكر) ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهوراً بيناً. يقال: شكرت الدابة: أي سمنت وظهر عليها العلف، وكذلك حقيقته في العبودية: وهذا ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة. والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه، وأن لا يستعملها فيما يكره، وقد كان ذلك من إبراهيم u
5- الحلم: قال تعالى )إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ( والحلم: ضبط النفس والطبع عن الهيجان عند الاستثارة. والحليم: الكثير الحلم وموقف إبراهيم من مقالة أبيه )لأَرْجُمَنَّكَ( ومن العتاة قوم لوط حينما مرت به الملائكة وأخبرته بما أمرت بها قال )فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ( ولم يكن حلم إبراهيم ذريعة يتذرع للسكوت عن المنكر بل كان يعلن الحق وينكر الباطل )وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(
6- أوّاه: قال الراغب الأصفهاني: الذي يكثر التأوه، وهو أن يقول: أوّه وكل كلام يدل على حزن يقال له التأوّه، ويعبر بالأوّاه، عمن يظهر خشية الله تعالى، والذي يتحقق من معنى الأوّاه أنه الخاشع الدعّاء المتضرع، وكثرة تأوّه إبراهيم وتضرعه بين يدي ربه قد ذكرت في آيات كثيرة تدل على تحقيق إبراهيم )رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ( وجدير بمن سلك طريق الدعوة أن يجعل تعجيل الإنابة من أبرز سماته ليكسب عون ربه وتسديده ومحبته
7- السخاء: قال تعالى )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ( فذكر أن الضيف مكرمون لإكرام إبراهيم لهم، ولم يذكر استئذانهم ليدل على أنه قد عرف بإكرام الضيفان، مع أنهم قوم منكرون لا يعرفهم فقد ذبح لهم عجلاً واستسمنه، ولم يعلمهم بذلك بل راغ: أي ذهب خفية حتى لا يُشعر به، تجاوباً لضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، وخدمهم بنفسه، فجاء به ومرّ به إليهم ولم يقربهم إليه، وتلطف مبالغة في الإكرام فقال )أَلا تَأْكُلُونَ( قال ابن القيم: فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تَخَلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.ا.ه
8- الصبر: كان إبراهيم مثلاً يحتذى في الصبر حتى استحق أن يكون من أولي العزم الذين أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يصبر كصبرهم )فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ( وكان صبر إبراهيم شاملاً لابتلاءات كثيرة، سيأتي بيان جملة منها بإذن الله.
9- رعايته لأهله: لم يكن إبراهيم ممن يلتفت إلى الناس بدعوته ويترك أهله، بل بدأ بهم وخصهم بمزيد الرعاية والعناية وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم )وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ( وكذلك كان إبراهيم، فدعا أباه )يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ( ووصى أبناءه بالتمسك بالدين )ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ( وكان يدعو )واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ( ويتضرع بقوله )رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(
10- شجاعته: واجه إبراهيم قومه ولم يخش كيدهم وقال مقسماً )وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ( وقوله لهم )أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ( وكان ذلك لعلم إبراهيم بأن معه القوة التي لا تهزم، وأن ما أصابه لم يكن يخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فرسم للدعاة منهجاً في الشجاعة المنضبطة بضوابط الشرع بلا تهور يحتذونه في مواجهة الباطل من إقرار الحق.
11- تحقيقه الكامل لعقيدة الولاء والبراء: قال تعالى عن )فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي( وقال: )وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إلاَّ الَذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ( فكل عدو لله وإن قربه النسب تجب البراءة منه، وكل ولي لله وإن باعدت به الأوطان والأزمان تجب موالاته ومحبته وقد أمرنا أن نتأسى بإبراهيم في ذلك )قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ(
12- سلامة القلب: قال تعالى )وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ . إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( وسلامة القلب نوعان: كلاهما داخل في مضمون الآية، أحدهما: في حق الله وهو سلامة قلبه من الشرك، وإخلاصه العبودية لله، وصدق التوكل عليه. والثاني: في حق المخلوقين بالنصح لهم وإيصال الخير إليهم، وسلامة القلب من الحقد والحسد وسوء الظن والكبر وغير ذلك.
أمة، قانتا، حنيفا، شاكرا، حليم، أواه، منيب، السخاء، الشجاعة، الولاء والبراء، الصبر، سلامة القلب، رعايته لأهله