1ـ هي عقيدة وسط لا تجد فيها إفراطاً ولا تفريطاً: هي وسط بين الذين ينكرون كل ما وراء الطبيعة مما لم تصل إليه حواسهم، وبين الذين يثبتون للعالم أكثر من إله، بل يحلون روح الإله في الملوك والحكام بل في بعض الحيوانات والنبات مثل الأبقار والأشجار، فقد رفضت الإنكار الملحد، كما رفضت التعديد الجاهل، والإشراك الغافل، وأثبتت للعالم إلهاً واحداً، لا إله إلا هو )قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون # سيقولون لله قل أفلا تذكرون # قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم # سيقولون لله قل أفلا تتقون # قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون # سيقولون لله قل فأنى تسحرون(
2ـ وهي عقيدة وسط في صفات الإله فليس فيها الغلو في التجريد الذي يجعل صفات الإله مجرد أسلوب لا تعطي معنى، ولا توحي بخوف أو رجاء، -كما فعلت الفلسفة اليونانية- فكل ما وصفت به الإله أنه ليس بكذا وليس بكذا.. من غير أن تقول ما صفات هذا الإله الإيجابية؟ وما أثرها في هذا العالم؟ ويقابل هذا أنها خلت من التشبيه والتجسيم الذي وقعت فيه عقائد أخرى كاليهودية .. جعلت الخالق كأحد المخلوقين من الناس، ووصفته بالنوم والتعب والراحة، والتحيز والمحاباة والقسوة… وجعلته يلتقي ببعض الأنبياء فيصارعه فلم يتمكن الرب من الإفلات منه حتى أنعم عليه بلقب جديد!
ولكن عقيدة الإسلام تقرر تنـزيه الله -إجمالاً- عن مشابهة مخلوقاته )ليس كمثله شيء، وهو السمع البصير( )ولم يكن له كفواً أحد( ومع هذا تصفه -تفصيلا- بصفات إيجابية فعالة )الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم( )إن بطش ربك لشديد ^ إنه هو يبدئ ويعيد ^ وهو الغفور الودود ^ ذو العرش المجيد ^ فعالٌ لما يريد(
3ـ وهي وسط بين التسليم الأبله الذي يأخذ عقائد الآباء بالوراثة، كما يرث عنهم العقارات والأملاك )إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون(، وبين الذين يريدون أن يعرفوا كنه كل شيء حتى الألوهية وهم بعد لم يعرفوا كنه أنفسهم التي بين جنوبهم، ولا ماهية حياتهم وموتهم، ولا كنه شيء من القوى الكونية المحيطة بهم، فكيف يطمع العقل بعد ذلك في معرفة كنه الألوهية؟ وهل يعرف النسبي كنه المطلق؟ ويعرف المحدود حقيقة غير المحدود؟!
وهي مع هذا تفتح الباب للنظر في الكون والتفكر فيه، يقول الرسول: “تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا” (الحديث روي بألفاظ متعددة، من طرق مختلفة، بأسانيد كلها ضعيفة، ولكن تعددها واجتماعها يكسبها قوة، والمعنى صحيح كما قال السخاوي في (المقاصد الحسنة) ويقول القرآن )قل انظروا ماذا في السموات والأرض( )أو لم يتفكروا في أنفسهم( )أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء( )وفي الأرض آيات للموقنين # وفي أنفسكم أفلا تبصرون(
4ـ في العقيدة المسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ فهم لم يغلوا فيهم غلو البوذيين والنصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم، ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بل المسلمون آمنوا بالرسل جميعاً وعزروهم ووقروهم واتبعوا النور الذي أنزل معهم، وأحبوهم وأطاعوهم ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباباً، وآمنوا بجميع الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء.
5ـ وكذلك وسطية بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان الكريم في الكون، فنأى الإسلام عن طرفين مذمومين بين تأليه الإنسان في صوره الكثيرة، وتحقير الإنسان إلى حد الزراية والمهانة، وذلك بالفصل التام بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية.
6ـ ووسطية في المجالات الروحية والمادية حيث وازنت عقيدة الإسلام بين الجانبين وضبطت العلاقة والنسبة بينهما، بينما المدنية الغربية الحديثة تهتم بالجوانب المادية ولا تقر الحاجة إلى خضوع ما إلا لمقتضيات اقتصادية أو اجتماعية؛ حتى أصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي المادي، وفي المقابل نجد مذاهب تقوم على الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل رقي الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء.
7ـ وهي وسط في علاقتها بالعقائد الأخرى، فلا تقبل الذوبان في غيرها، بل تدعو في قوة إلى الثبات عليها والاستمساك بها )فتوكل على الله إنك على الحق المبين( )فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم( ولكنها لا تتعصب ضد غيرها من العقائد السماوية )الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم( بل يتسع صدرها لما يخالفها )لكم دينكم ولي دين( )لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون( تهيب بأصحابها أن يدعوا إليها )ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله( ولكنها لا ترضى بإكراه أحد على اعتناقها )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(
لا تقبل التهاون في موادة من يحاربونها ويضعون العراقيل في سبيلها وإن كانوا من ذوى القرابة القريبة )لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( ولكنها لا تقبض يد البر والمعونة عمن يخالفها ولا يعتدي على أهلها )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين(
8ـ وهي وسط بين الذين يتساهلون في إثبات العقائد فيقبلون الظنون والشكوك والأوهام، وهذا معين لا ينضب لقبول الخرافات والأساطير، وبين الذين لا يقبلون في العقيدة أي خطرة تمر بالذهن ثم تختفي، أو هاجس يهجس في النفس ثم يزول، لقد رفضت عقيدة الإسلام الظن في أصول العقيدة -فضلاً عن الشك أو الوهم- قال تعالى )وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً( )إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس( )وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً(
ومع هذا تسامحت في الخواطر التي لا يسلم منها العقل البشري، بل اعتبرتها أحياناً دليل يقظة العقل، ومظنة للطمأنينة وعلم اليقين. قال بعض الصحابة: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما لو أن نصير حمماً -فحماً محترقاً- أهون من أن نتكلم به -يعنون خطرات ترد عليهم في قضايا الألوهية- فقال النبي في صراحة وقوة {أو قد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان} رواه البخاري وغيره. ويروي الحاكم أن ابن عباس وابن عمر y التقيا، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي آية في كتاب الله أرجي؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما قول الله )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي( فرضي منه بقوله (بلى)، فهذا لما يعترض في الصدر مما يوسوس به الشيطان.
إنها وسوسة الشيطان سرعان ما يطردها إلهام الملك في قلب المؤمن، إنها طيف يلوح ثم يختفي، وهاجس يهجس ثم يزول بإسلام الوجه لله. والاعتصام بهداه، وتلاوة آياته )ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم( )ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور(.
9ـ وهي عقيدة وسط في قضية الإرادة الإنسانية، قضية الجبر والاختيار، تلك القضية التي حار العقل البشري في الوصول إلى رأي فيها، وتنازع فيها الفلاسفة وعلماء الأخلاق والنفس والتربية وغيرهم منذ تفلسف الإنسان إلى اليوم.
عقيدة الإسلام في هذا هي العقيدة الوسط المطابقة للفطرة السليمة والواقع المشاهد، فالإنسان -في دائرة أعماله الاختيارية- حر مسئول عن نفسه وعمله، له أن يفعل وأن يترك، أن يقدم وأن يحجم كما تشهد بذلك بديهته وإحساسه، وكما تشهد نصوص القرآن )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( )إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً( )لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر( )من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها( )لا تكلَّف نفس إلا وسعها( إلى غير ذلك من آيات تبلغ المئات، كلها تقرر حرية الإنسان ومسئوليته عن عمله.
ولم يكتف القرآن بهذا التقرير الإيجابي، ولكنه حمل بقوة على الجبريين الذين يلقون بشركهم وأوزارهم على كاهل القدر، محتجين بمشيئة الله فقال: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون(. )وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين( )وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إن أنتم إلا في ضلال مبين(.
ولكن الإنسان -كما هو الواقع- ليس مطلق الإرادة، كامل الاختيار، بحيث يفعل كل ما يشاء، وينفذ كل ما يريد، ولو فعل لكان إلها.
ولن يستطيع أحد -مهما بلغ من الانتصار للحرية الإنسانية- أن ينكر هذه المحدودية لإرادة البشر، فقد حكموا فيه الوراثة، أو البيئة أو كليهما وقال بعضهم: “الإنسان حر في ميدان من القيود”، حتى أولئك الماديون الجدليون قيدوه بوسائل الإنتاج، وظواهر الاقتصاد، فنزلوا بالإنسان إلى أحط مستوى من “الجبرية” حين جعلوه عبداً خاضعاً لمظاهر المادة. لا سيداً مهيمناً عليها كما يقرر الإسلام.
هذه الحقيقة المتفق عليها قررها الإسلام في صورة أشرف وأكرم للإنسان، فهو حر مختار في دائرة ما رسم الله للوجود من سنن، يجريها بعلمه وحكمته ومشيئته على أجزاء الكون كله، ومنها هذا الإنسان، فهو حر لأن الله أراد له الحرية. أو هو يشاء، لأن الله هو الذي قدر له أن يشاء: )وما تشاءون إلا أن يشاء الله(.
فالقرآن -بجانب ما يقرره من حرية الإرادة الإنسانية- يذكر الجانب الآخر، جانب الإرادة الإلهية النافذة، والقدرة الإلهية القاهرة: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً( )ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله( )إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر( )يضل من يشاء ويهدي من يشاء( )قل كل من عند الله(.
والقرآن قد أدى للحقيقة حقها من كل جوانبها، فلم يغمط الألوهية حقها، كما لم يعد بالإنسان قدره. وكان بشموله واتساع نظرته كتاب العالم كله وكتاب الزمن كله.