1/ الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان ولم يزلْ بعباده خبيراً بصيرا، وأشهد أن سيِّدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق هادياً ومبشراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا؛ أما بعد.
فإن في تعاقب الليل والنهار آية من آيات ربنا، وفي مضي السنين والأعوام عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيرا. وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا. وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا. لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيرا. ولقد صرفناه بينهم ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}
2/ قد مضى عام بما كان فيه من حسنات وسيئات، وطاعات ومعاصي، وشرور وخيرات، وما هي إلا أيام معدودات ويطلُّ علينا عام جديد ما ندري ما الله صانعٌ بنا فيه؟ نسأل الله تعالى خيره فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، ونعوذ به من شرِّ ما فيه وشرِّ ما بعده؛ وما أحوجنا – معشر المسلمين – ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وواقعنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسـلم قد جاهد في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * ورَبَّكَ فَكَبِّرْ * وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فكان صلى الله عليه وسـلم يواصل الليل مع النهار والسر مع الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش ووعيدها.
واستجاب له منذ بداية الدعوة صديق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجه خديجة بنت خويلد، واستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضى الله عنهم جميعاً وأرضاهم. وتعاهد صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم فيحفظهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق، ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان صلى الله عليه وسلم قدوة لهم في جميع أقواله وأفعاله. وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في الدعوة إلى الله وفي التزود من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله، وكانت العقيدة في نفوسهم أهـم من المال والأهل والولد، وعندما خُيِّروا بين الوطن والقبيلة ورغد الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة في سبيل الله.
3/ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فعرض نفسه على قبائل العرب وبطونها قائلا: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دون الله من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي، وتمنعوني حتى أبلّغ رسالة ربي» ويقول: «من يحملني حتى أبلّغ رسالة ربي» ويقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» وخلفه عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب يقول: لا يغرّنكم هذا عن دينكم، ودين ابائكم، إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة، والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا له!! وقد كان من لا يعرف أبا لهب يتعجّب ويقول: من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟! فيقال له: هذا عمه أبو لهب!!
فأتى بني كندة في منازلهم، ودعاهم إلى الله فأبوا عليه، وأتى كلباً في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وأتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم، وأتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس، والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؛ فقال له رسول الله: «الأمر لله يضعه حيث شاء» فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك!! وفي هذه القصة دلالة قوية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان طالب ملك، أو جاه، أو يتجر بالمبادىء يصنع كما يصنع دهاقين السياسة في القديم والحديث من استمالة الناس بالأحاديث الكاذبة والوعود الخادعة البراقة، ويمنّيهم الأماني الفارغة حتى إذا تمَّ له ما أراد نسي ما قال، ورجع في وعوده، بل قد يتنكر لهم، ويسفّه عليهم، وينكل بهم، وهذا فرق ما بين النبوة وغيرها، وما بين الداعي إلى الحق وطالب الدنيا.
4/ وبعد ثلاثة عشر عاما من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمداً وأصحابه صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم بالنصر وجاءهم من جهة المدينة. ثلاثة عشر عاماً كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها!! ثلاثة عشر عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض. ثلاثة عشر عاماً من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.
لما أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز وعده له خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في موسم الحج، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة ساق الله نفرا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فكانوا طلائع هذا النور الذي أبى الله إلا أن يكون من المدينة. فقال لهم: «من أنتم»؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي اليهود»! قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون إليّ أكلمكم»! قالوا: بلى، فجلسوا إليه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القران، وكان من أسباب مسارعتهم إلى قبول دعوة الإسلام أن يهود كانوا يساكنونهم في المدينة، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك، وأصحاب أوثان. وكانت تقع بين اليهود وبين الأوس والخزرج وقائع وحروب، وكانت الغلبة تكون للعرب، فكان إذا وقع شيء منها قالوا لهم: «إن نبياً مبعوثاً الان قد أظلّ زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم» فلما كلَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله تهامسوا وقال بعضهم لبعض: تعلمون – والله- أنه النبي الذي توعّدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه.
5/ فأين نحن اليوم من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وسلم؟ لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه؛ فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟! ماذا قدمنا فيه كأفراد وكشعوب، ليوم كألف سنة مما تعدون؟!
إن الجواب على هذا السؤال مخجل ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في عمل قلما تنتفع به الدعوة الإسلامية، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء مع أهله ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في رعاية شؤون البيت والولد، ثم ينام، ثم يعود في الصباح إلى عمله وهكذا..إنها والحق يقال حياة كالتي وصفها الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لقد شغلتنا أموالنا وأولادنا عن طاعة الله والجهاد في سبيله، ونحن الذين حذَّرنا الله جل وعلا من فتنة المال والولد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: »إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك« رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة، وفي الجهاد في سبيل الله، أم أفنيناها في اللهو والتفاخر بالجاه والمال والولد؟ ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السان، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أم أبليناها في تناول ما لذ من الطعام والشراب؟! والذي يسـألنا جلّ وعلا يعلم خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}