خطب الجمعة

وحدة الأمة

خطبة يوم الجمعة 14/12/1437 الموافق 16/9/2016

1- حين الحديث عن الوحدة لا بد من التركيز على ثلاثة جوانب:

الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه القضية، واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين وأصلاً من أصوله.

والجانب الثاني: هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه الوحدة في بناء حضارة الإسلام المجيدة؛ فالحديث عن الوحدة حديث عن عوامل بناء دولة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تمثلت في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والتي شكلت بدورها عملاً حضارياً أرسى دعائم هذه الحضارة لقرون متتالية.

أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي يتمثل في حاجة المسلمين في هذا الزمان إلى هذه الوحدة حتى يستعيدوا ريادتهم في قيادة الأمم، فالحديث عن الوحدة بأشكالها وألوانها هو حديث عن مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين في زمننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم على الناس إلا بتوحدهم؛ لأن مخالفة هذا التيار تيار الوحدة إنما يعني التشرذم والتفكك ومن ثَمّ الانهيار الحضاري، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} والقتل هنا قد يراد به المعنى الحقيقي ويراد به المعنى المجازي الذي يعني التشرذم والتفكك المنافي للوحدة والذي يشكل معولاً من معاول انهيار الحضارة الإسلامية، وعقبة من عقبات المسيرة الحضارية.

وإننا إذ نسعى إلى تحقيق الوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية، نسعى إلى تحقيقها ضمن مفهومها الواسع والشامل، بكل أشكالها وألوانها، فنريد:

الوحدة الفكرية أو التصورية: وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية وعلى وحدة النظر في شؤون الكون والحياة للوصول إلى الحقائق.

 ونريد الوحدة الثقافية: والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من خلالها إنجاز الأمور النظرية علمياً في أرض الواقع.

ونريد الوحدة السياسية: والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه أنظار المسلمين كافة، والذي يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.

ونريد الوحدة الوجدانية: والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم، ويتألم لآلامهم. هذه الوحدة وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد النبي صلى الله علـيه وسلم

 2- وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الوحدة ودعا إليها، ووجه المسلمين نحوها، شرع ما يؤدي إلى تحقيق هذه الوحدة ويعين عليها، ويعمل على صيانتها، فشرع صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيه معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب واحد.

3- ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأسه الجهاد في سبيل الله والذي يمثل العامل الأكبر لصيانة هذا الكيان، ما كان لتقوم له قائمة لولا الوحدة، ولذا اعتبرها القرآن الكريم شرطاً من شروط القيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يظهر ذلك من تقديم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} على قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ}

4- ولا شك أننا بحاجة إلى دراسات جادة تشخص لنا أسباب الفرقة وعوامل انهيار الوحدة، حتى يتسنى للعاملين في الحقل الإسلامي مواجهتها والتصدي لها وإيجاد الحلول المناسبة. إلا أنه يمكن الإشارة إلى أبرز هذه الأسباب؛ فمنها:

1- الخلل العقدي: الذي يعتبر أكبر العوامل في انهيار الوحدة بين المسلمين؛ لأن من مقتضيات وجود خلل في التصور، وجود خلل في السلوك واضطراب في وحدة الصف، وخذ مثلاً: هزيمة المسلمين وتفرقهم يوم حنين.

2- الغزو الاستعماري: بأشكاله وألوانه، الذي عمل على تمزيق الأمة فكرياً وثقافياً وسياسياً وجغرافياً…

ومن العوامل أيضاً: العصبية والعنصرية، والأطماع الشخصية التي تولد الأحقاد والضغائن والسعي إلى تحقيق الذات ولو على حساب الآخرين، وهذه الأخيرة تمثل في الحقيقة انعكاساً للخلل العقدي والغزو الاستعماري.

5- يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى عند قول الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يقول: هذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع {صفاً كأنهم بنيان مرصوص} … بنيان تتعاون لبناته وتتضامن وتتماسك وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها، تقدمت أو تأخرت…

ويستطرد الأستاذ سيد فيقول: إن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن يهيمن على جماعة، وينشئ مجتمعاً متماسكاً.. متناسقاً، وصورة الفرد المنعزل يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.ا.هــــــ

إن وحدة المسلمين فريضة، والوقوف صفاً واحداً من أجل الدعوة على هدى ونور وبصيرة أمرٌ واجب، أمرنا الله عز وجل به وحثنا على التمسك به {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}

5- ما هي العوائق التي مازالت تحول دون أي شكل واسع ذي قيمة من أشكال الوحدة، والتنسيق بين دول وشعوب العالم الإسلامي؟

 إن العالم الغربي يسير اليوم بسرعة مدهشة نحو اعتبار كل المسلمين مهما تكن درجة التزامهم أصوليين متطرفين معادين!

وإذا كان الأمر كذلك فإن بروز أشكال من التعاون والتوحد بين الشعوب والدول الإسلامية قد يكون مرهوناً إلى حد بعيد بنضوج الصحوة الإسلامية المباركة وانتشارها وتمكنها، لكن هناك من العوائق والصعوبات ما يجب تذليله أو التخفيف من غلوائه قبل أن نتمكن من تحقيق ما نريد، ولعلنا نوجز فيما يلي أهم تلك العقبات:

1- إن حالة السكون والركود التي يعيشها كثير من شعوب العالم الإسلامي ستنتج دائماً التفكك والتمزق، فالانطلاق الراشد يؤمّن ترابطاً عجيباً بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها.

2- هناك علاقة حساسة بين الوحدة والحرية قد تصل إلى حد التضاد في بعض الأحيان، مع أن كلاً منهما يؤمّن حاجات أساسية للفرد والأمة، فالوحدة قيود قد تصادر بعض الحريات، وتستلب شيئاً من المكاسب، وهذا على كل المستويات، والناس حين يتحملون أعباء الوحدة وقيودها إنما يفعلون ذلك لما توفره من حاجات ومصالح، ولما تدفعه من مخاطر التشرذم، فإذا أحس متحدان (شعبان أو شخصان) أن أعباء الوحدة أكبر من منافعها صاروا جميعاً إلى التخلص منها، مهما تكن العواطف قوية نحوها! وهذا هو أكبر سبب أدى ويؤدي إلى الانفصال بين الدول والجماعات على مدار التاريخ (وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى الطلاق بين الزوجين)، وهذا يعني أن تفكيراً عميقاً ودراسات مستفيضة ينبغي أن تسبق كل شكل من أشكال التوحد؛ حتى لا يصبح ذلك الهدف الكبير من أهداف الأمة حقلاً للتجارب المخفقة.

  3- تتطلب الوحدة الإسلامية بروز قدرة حسنة على (التكيف) عند أفراد الأمة؛ إذ إن الوحدة تتطلب التنازل عما هو هامشي وصغير ومؤقت في سبيل تحقيق ما هو أساسي وكبير ودائم، وهذا يتطلب وعياً تاماً بمكاسب الوحدة وتكاليفها بل إن الأمر يتطلب في بعض الأحيان موقف تضحية من قبل بعض الشعوب والجماعات كما يضحي الشهيد بحياته، ويتنازل عنها في سبيل نصرة دينه ورفعة أمته، ولن يقدم على هذه التضحية إلا المؤمن الذي تمكن الإيمان من قلبه؛ فالفهم العميق والإيمان المكين شرطان لابد منهما لحصول ذلك، والنقص فيهما أو في أحدهما قد يؤدي إلى تصارع فئتين دعواهما واحدة.

4- الفوارق الاقتصادية الكبرى بين كثير من شعوب العالم الإسلامي تجعل تحقيق الوحدة أمراً غير يسير، ويذكر في هذا السياق أن التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يتجاوز 4% من مجمل تجارتها، أما ال 96% فهو مع دول غير إسلامية، وسبب ذلك أن الغرب ظل على مدار ثلاثة قرون يكيف حاجات الشعوب الإسلامية مع فوائض إنتاجه؛ حتى لا يجد المسلم شيئاً من حاجاته إلا في الغرب، أو في بلدان استوردته من الغرب!

 5- على الصعيد الثقافي ذي الأثر الخطير في العلاقات بين الشعوب نلاحظ أن أكثر مناطق العالم الإسلامي هي مراكز لاجتياح العواصف والأعاصير الثقافية، فهذا بلد متأثر ببلد مجاور له غير مسلم، وهذا متأثر بمن استعمره، وآخر بمن أرسل إليه البعثات … وهكذا. والوحدة حين تقوم لابد أن ترتكز على عدد من الركائز التربوية والثقافية إلى جانب الركائز العقدية والاقتصادية، وهذا ما نجده ضامراً إلى حد بعيد في كثير من بلدان العالم الإسلامي.

6- يفتقد العالم الإسلامي اليوم النواة الصلبة القادرة على تبني الأطر الوحدوية وتعزيزها، والتي تمتلك في الوقت ذاته القدرات والإمكانات التي تجذب دول العالم الإسلامي وشعوبه نحوها، وإذا علمنا أن الظواهر الكبرى لا يمكن أن تنشأ إلا حول نواة تَنْشدّ إليها وتتحدد من حولها أدركنا الصعوبات التي تواجه الأعمال التوحيدية في العالم الإسلامي.

 7- شهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات، وطنية، وقومية، وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلفه انهيار الخلافة العثمانية، وهذه التيارات أفرزت فلسفات وأدبيات تمجد الكيانات الصغيرة، وتبحث لها عن أمجاد خاصة بعيداً عن الولاء للوطن الأكبر، مما يستدعي جهوداً فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش فيها، والأعراق والأجناس التي ننحدر منها.

وبما أن الحديث موجه أصلاً إلى هؤلاء، فإن بالإمكان أن نذكر بعض الإمكانات المتاحة للأفراد والهيئات الشعبية والرسمية، مما يعد تمهيداً لجمع شمل الأمة على مستوى ما، وبكيفية من الكيفيات على الوجه التالي:

1- تحتل اللغة العربية مكانة هامة بين وسائل التوحيد، ومن ثم فإن المدخل الصحيح لكل أنواع التقريب بين المسلمين هو تعميم العربية بين الشعوب الإسلامية التي لا تنطق بها باعتبارها لغة أولى؛ إذ إن اللغة ليست وعاء فقط، لكنها وعاء ومضمون وقوالب للتفكير في آن واحد؛ وينظر المسلمون في بقاع الأرض إلى العربية نظرة إجلال وتقدير لكونها لغة كتابهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- وتراثهم الروحي والثقافي، وهذا يساعد كثيراً في الإقبال على تعلمها ونشرها، ومن واجب الجماعات والمؤسسات والهيئات المختلفة أن تسعى لإدخال العربية إلى مناهج تلك الشعوب باعتبارها لغة ثانية، كما أن من واجبها العمل على فتح المعاهد والمراكز التي تعلم العربية.

2- من واجب الجماعات والمؤسسات الإسلامية أن تسعى إلى بلورة بعض الأطر الوحدوية كالاتحادات الإسلامية مثل (اتحاد المدرسين المسلمين، واتحاد التجار المسلمين).. وهكذا، وهذا الأمر ليس باليسير إذا أدركنا أهميته، وفرغنا له الكفاءات والطاقات المطلوبة.

  كما أن من المطلوب منا أن نسعى في المنطقة العربية إلى إدخال لغة إسلامية، كالتركية، أو الأردية إلى مناهج تعليمنا، حتى نقيم جسور الأخوة والتفاهم بيننا وبين إخواننا.

  3- للدعاة الذين يجوبون العالم الإسلامي دور خطير في اكتشاف كل ما ينمي أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي ثم الكتابة عن ذلك ونشره، لتتعزز معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة.

  4- العالم الإسلامي بحاجة إلى عدد من مراكز المعلومات والدراسات المرموقة التي تعنى بتثقيف الناس بهموم العالم الإسلامي، والكشف عن إمكاناته الاقتصادية والتجارية وغيرها؛ بغية حث الناس على توجيه طاقاتهم وتحركاتهم نحوها.

  5- في زماننا هذا قد يكون الاقتصاد في كثير من الأحيان هو ما تبقى من السياسة، بل إن السياسة تتجه لتتمحض لخدمة الاقتصاد، وفي هذا الصدد فإن من الحيوي لنمو الصناعات في العالم الإسلامي إقبال المسلمين على استهلاكها، وسد حاجاتهم بها، ونحن نقف في كثير من الأحيان من هذه المسألة الموقف المنكوس حيث ننتظر تحسن الصناعة حتى نقبل على استهلاكها، مع أن من أهم سبل تنميتها وتحسينها ارتفاع مبيعاتها، ونجد في هذا الشأن أن أبناء الصحوة لم يفعلوا شيئاً ذا قيمة في طريق تشجيع الناس على شراء المصنوعات الإسلامية: لا عن طريق الطرح في الإطار النظري ولا عن طريق القدوة الحسنة !.

  6- يتطلب توحيد العالم الإسلامي المرحلية والتدرج على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأقاليم، والكتل الإقليمية يمكن اعتبارها خطوات إيجابية على الطريق إذا قامت على النهج الإسلامي، وكانت مفتوحة، تشجع الانضمام إليها، وتنمي في الوقت ذاته أدبيات (الكل) الإسلامي المنشود.

 السبيل إلى الوحدة: لقد وجه الخطاب الإلهي أتباعه إلى سبيل الوحدة، فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} فالسبيل هو الاعتصام بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات العمل)، للوصول إلى الأهداف المرسومة.

وإن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي صلى الله عليه وسلم مع مراعاة أوجه التغيير ومواكبة تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}

وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من أزمتها الراهنة، بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات)، {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، ومن مقتضيات تغيير الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم.

وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا بمجموعه يولد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بحالة الجسد الواحد في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)

 الفرقة وأثرها في الانهيار الحضاري: إن للفرقة دوراً كبيراً في تعطيل مسيرة الأمة نحو غاياتها المثلى، وأهدافها النبيلة، لتحقيق كيانها الحضاري للقيام بأمر الله، وتبليغ دينه، وتنزيل منهجه في أرض الواقع لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.

  فالفرقة تبدد الطاقات وتنأى بها عن استثمارها في مساربها الصحيحة، وتثني النفس عن عزيمتها وهمتها، وتجعل نظرة الأمة قاصرة، بعيدة عن التطلع نحو آفاقها ومراميها، منشغلة بوضعها الداخلي، دون الانتباه إلى ما يحوم حولها ويحاك ضدها من الدسائس والمؤامرات التي يقوم بها أعداء هذه الأمة، ومن هنا فقد حذر القرآن الكريم المسلمين من الفرقة؛ يقول تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}

  وبما أن المثال الواقعي والمترجم عملياً في أرضية الواقع، هو أبلغ في التمثل والتأسي والاقتداء والاعتبار، ركز القرآن الكريم على هذا الجانب الذي يمثل الجانب القصصي والتاريخي من الكتاب العزيز، فضرب القرآن لنا أمثلة واقعية من واقع التاريخ الإنساني من واقع أهل الكتاب ليبين لنا دور الفرقة وخلخلة الصف في زوال الأمم وانهيارها وذهابها، يقول تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} ويقول: {إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}  وإن نظرة إلى واقع المجتمعات الغربية، بما فيها أمريكا وأوروبا، يرى الفاحص المدقق أنها مجتمعات آيلة إلى السقوط وفق هذه السنة الإلهية؛ فهي مجتمعات مريضة من داخلها وإن استحسن الناس ظاهرها، مجتمعات منهارة، متفككة، خربة، وخاصة على الصعيد الاجتماعي. وصدق الله القائل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}

الاختلاف الفقهي هل ينافي الوحدة؟ إن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء ووجهات النظر ضمن إطار الدليل الشرعي وضمن ضوابط الشريعة، وفي إطار مسوغات وحجج مقبولة؛ لا يناقض الوحدة، ولا يعاديها؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنه يساندها ويعاضدها ويقويها.

وتعتبر هذه القضية ميزة تتحلى بها الأمة المحمدية؛ لأن الإسلام يمثل الدين الخاتم الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، فجاءت نصوص الوحيين تحمل في طياتها إمكانية تعدد الأفهام لمراعاة التغير على مر العصور، ولمواكبة التطورات والتغيرات المستحدثة.

فإن الاختلاف يصبح مذموماً، إذا كان بعيداً عن ضوابط الشرع، وبما يؤول إليه من التشرذم والتحزب والتناحر والتحاقد، وإن نظرة إلى واقع التاريخ الإسلامي، نجد أن هذا الاختلاف في مراحل معينة قد استنفد طاقات الأمة، وعطل مسيرتها  الفكرية والثقافية والحضارية، وللأسف فإننا ما زلنا نعيش بهذه العقلية إلى الآن، وأعداء الإسلام والمسلمين قد توحد شملهم للنيل من هذه الأمة ومنهجها الرباني.

ومما تجدر الإشارة إليه أن وجود تيارات إسلامية في الساحة الإسلامية، ليس من الاختلاف والفرقة المشار إليها في الحديث: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.. ) بل هو من تعدد الآراء والاجتهاد وتنوع آليات العمل ووسائله مع الاتفاق على القواعد العامة والمبادئ الكلية، ما دامت تلك الاتجاهات في إطار الاختلاف التنوعي لا اختلاف التضاد.

كما أن لحرية الرأي دوراً كبيراً في الوحدة الفكرية بين المسلمين؛ يقول الدكتور عبد المجيد النجار: (وقد جعل القرآن الكريم حرية الرأي بمعنى الصدع به وإفشائه بين الناس، أساساً من أسس الاجتماع في قيام الأمة، والحفاظ عليها، وتمكين وحدتها، وذلك في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صميم حرية الرأي في تبليغه والاحتجاج له، وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تعطيل هذه الحرية أو الزهادة فيها يفضي إلى الانقطاع في وحدة الأمة، والانقطاع في صلة العباد بالله، فقال في ذلك: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً؛ أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى