خطب الجمعة

واصبروا

أولاً: تقوية الإيمان بالقدر، بأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف بما هو كائن، وليتذكر أنه وهو جنين في بطن أمه كتب معه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل ما يصيبه قد كتب ولا تغيير في ذلك.

ومن قوي إيمانه ثبته الله سبحانه وتعالى عند الابتلاء والمحن، لقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وتقوية الإيمان سبب للثبات والأمن كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ولا شك أن من كان أقوى إيماناً كان أثبت عند المحن والبلاء.

ولننظر إلى سحرة فرعون الذين كانوا قبل إيمانهم أشد الناس عداوة لله ولرسله، وأبعدهم عن مقامات أهل الإيمان، ولكنهم أخلصوا لله في تلك اللحظة، فتعرضوا لمحنة فنجحوا وثبتوا وصبروا، فقذف الله في قلوبهم من الإيمان والعلم الشيء الكثير جداً، ولذلك حين ضغط عليهم فرعون وهددهم بأنه سيقتلهم ويصلبهم في جذوع النخل، وسيهينهم بأنواع الإهانة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}، فعرفوا أن الله هو الذي فطرهم فآمنوا به، وحققوا ذلك وأقسموا به تأكيداً.

فانظر إلى الحال الذي وصلوا إليه من الإيمان الآن، بعد أن كانوا يقولون قريباً: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فقد كانوا يقسمون قبل ثوان بعزة فرعون، وهم الآن يقولون: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} فعرفوا أن ملك فرعون وما يهدد به كله من أمور هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا تدوم، ومن هنا فهم راغبون فيما في الآخرة من الأمور الدائمة الخالدة التي لا انقطاع فيها، لهذا قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}

فقد عرفوا الله بصفاته فعرفوا أنه هو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب عن عباده: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ووصفوه بصفات الكمال والجلال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} وهاتان الجملتان هما خلاصة علم الأولين والآخرين، فعلم الأولين والآخرين يدور على هاتين النقطتين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}.

فغاية ما يصل إليه المخلوق من العلم أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وبشرعه وثوابه لمن أحسن وعقوبته لمن أساء، وأن يؤمن بالمصير إليه وبجنته وناره، فذلك خلاصة علم الأولين والآخرين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} قذف الله كل هذا العلم في قلوبهم في هذه اللحظات عندما ثبتوا وآمنوا، وهذا ما لا يتوصل إليه الدارسون والباحثون في السنوات العديدة.

ثانياً: التقوى: فاتقاء الله سبحانه وتعالى سبب للثبات والصبر، فقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} في قصة يوسف، فبين أن التقوى والصبر من المتلازمات. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فدل ذلك على أن من اتقى سيعلمه الله ما يحتاج إليه، ومن ذلك ما يحتاج إليه من الحجج المثبتة، وما يحتاج إليه من الصبر أيضاً.

ثالثاً: الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى: فهو من أبلغ ما يثبت الله به قلوب المؤمنين، ومن أبلغ ما يزيد في الصبر، فالدعاء يرد القدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يرد القدر إلا الدعاء وهو يصطرع في السماء مع البلاء).

وأيضاً فإن الدعاء هو مخ العبادة أو هو العبادة، واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لا يرد صاحبه، وبالأخص في حال الاضطرار والمحنة والبلاء، فالله يقول في كتابه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}.

رابعاً: البراءة من الحول والقوة إلى الله والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده: فلا بد لمن أصيب بالبلاء أن يبرأ من حوله وقوته إلى الله سبحانه وتعالى وأن يعلم أنه لا يثبت إلا بتثبيت الله له، ولا يصبر إلا بتثبيت الله له، وأنه لا حول له على دفع ما نزل به من قدر الله، ولا قوة به على مغالبة أقدار الله، فلا بد أن يستسلم إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعرف أن الأمر كله إليه ومن عنده، ومن هنا فعليه أن يحسن التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا ما حصل في أنبياء الله.

فهذا نوح عليه السلام عندما تمالأ عليه أهل الأرض جميعاً قال لهم: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}.

وهذا هود عليه السلام عندما اجتمع رأي قومه على التخلص منه قال لهم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وهذا إبراهيم عندما رماه قومه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.

وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}.

خامساً: المعرفة بالابتلاء والاستعداد له: فمما يعين على الصبر عند البلاء والثبات فيه أن يعرف الإنسان سنة الله بالابتلاء، فهي سنة ماضية وحكمة بالغة، فالله تعالى يقول في كتابه: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

والاستعداد للبلاء بأن يعلم الإنسان أنه يسلك طريق المكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي رواية: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل لما خلق الجنة زينها ثم أرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فلما خلق النار وجعل فيها من الرجز والعذاب أرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد).

فالسائر في هذا الطريق يعلم أنه سيمتحن بكثير من المحن والبلايا، فلا بد أن يستعد لها بتهيئة نفسه لذلك، وقد قال أحد الحكماء: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعـ ـه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا فلا فائدة من العويل، بل لا بد من الاستعداد للابتلاء، وأن يعلم الإنسان تقلب أحوال الدنيا وعدم استقرارها، ويستعد لذلك، وبالأخص إذا علم حكمة الله في الابتلاء، وأن من حكمة الله أن يرفع به أقواماً درجات إذا صبروا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كانت تكفيراً من ذنبه حتى الشوكة يشاكها)، وقال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل)،وبين أنه لا يزال البلاء بالعبد حتى يفد على الله وليس معه ذنب.

سادساً: تذكر سنن المرسلين وأتباعهم: فإذا تذكر الإنسان أن أنبياء الله وهم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم قدراً ومكانة، قد ابتلوا بأنواع البلايا والمحن فصبروا وصمدوا؛ تذكر أنه ما هو إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن على آثارهم من المتقين والمخلصين في كل زمان ومكان، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، ومن هنا فهو يرحب بتلك النكبات لأنها أصابت من هو خير منه، وهي نكبات مباركة، فيلتمس فيها البركة لأنها قد أصابت أنبياء الله المباركين، وقراءة الإنسان لسيرهم وقصصهم الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ ما يعين على الثبات.

وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده.

ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، وذلك في خواتم سورة هود بعد أن قص الله فيها قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب وقصة موسى وهارون، فكل ما أصابهم من قبل يثبت فؤاد المؤمن، لعلمه بأنهم أكرم على الله منه وخير منه، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن لا يصيبهم ذلك البلاء، ولو كان عدم إصابة البلاء خيراً لاختار الله ذلك لأنبيائه، ولكنه علم أن البلاء خير لهم فاختاره لهم، ومن هنا فإذا أصابك شيء مما أصاب الأنبياء فاستقبله بما استقبله الأنبياء.

وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقسم غنيمة يوماً فدخل عليه رجل أشعث أغبر، ثائر الرأس مشمر الثياب غائر العينين فقال: اعدل يا رسول الله، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم ابتسم وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتذكر أذى بني إسرائيل لموسى وهم يعلمون أنه رسول الله، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}.

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله أخي يوسف! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته)، فيوسف عليه السلام مكث في السجن ما مكث، ثم أتاه الداعي من الملك يدعوه للخروج إليه فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} ولم يستعجل في الخروج من السجن حتى تظهر براءته، وحتى تقر النسوة بما سمعن من امرأة العزيز، فكان ذلك من الثبات وعدم الاستعجال، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله هنا: (رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته).

وكذلك تذكر حال أتباع المرسلين في كل زمان، وما ثبتهم الله به من الصبر في المحن والبلايا، وبالأخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حققوا أروع الأمثلة، فهذا خبيب رضي الله عنه عندما صلبته قريش وهو حي على الخشب قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وهكذا أتباعهم من بعدهم والقرون الفاضلة من هذه الأمة، وقد برز فيها من النماذج من الصابرين الشيء الكثير، ومن هذه النماذج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد صبر على المحنة والبلاء ثماني عشرة سنة وهو صامد ثابت تحت السياط وفي الأغلال والحديد يعذب ليقول كلمة واحدة فلم يقلها، وصبر على مبدئه وثبت عليه حتى فرج الله تلك الغمة وأزالها عن الأمة، وقد ذكر أنه مما أعانه على الثبات في فتنة محنة خلق القرآن أن شيخاً كبيراً من أهل العراق أتاه وهو في الحديد يساق إلى السياط فقال له: يا أحمد أنت اليوم رأس في أهل الإسلام فاتق الله فيهم؛ فإنك إن أجبت أجاب من وراءك، فكان ذلك من وسائل ثباته، وتذكر الإنسان لمسئوليته عمن يأتي بعده معين له على هذا الثبات.

ولذلك فإن المودودي رحمه الله عندما أطلق الرصاص وهو قائم يخطب فقال له الناس: اجلس؛ قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ إذاً: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان في حال البلاء: أن يتذكر: إذا جلست أنا فمن يقوم؟

سابعاً: التماس المنحة في المحنة: فإن لله سبحانه وتعالى حكماً بليغة، وكثيراً ما تتحول المحنة إلى منحة، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول أحد العلماء: لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينه كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنه فكثيراً هي المحن والبلايا التي تئول إلى منحة، ولولاها لما تحقق للإنسان مراده، فهذا يوسف عليه السلام أراد الله أن يجعله ملكاً على مصر، ولو جاء بجيش عرمرم إلى مصر لقاتله ملوكها ولم يستطع أن يتملك على أهلها، ولكن أتى به عبداً وسلط عليه أقرب الأقربين ليرموه في الجب، وقديماً يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ومع ذلك فيؤتى به في صورة عبد ويباع بثمن بخس دراهم معدودة، ويسجن بعد ذلك مدة طويلة ليكون بهذا ملكاً، ولهذا عرف العلامة المختار بن بونه رحمه الله اللطف بقوله: واللطف إبراز الأمور جاء في صور أضداد كما ليوسف صيره رقاً لكي ينالا ملكاً وعزاً ربه تعالى وكثيراً ما تأتي تلك المنح الربانية لملتمسها في داخل المحنة، فحصار الشعب الذي فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه وبني هاشم وبني المطلب بمكة ودام ثلاث سنين ظاهره محنة ولكن باطنه منحة، فقد اختار الله لهم محضناً تربوياً يتربون فيه على قيم الإيمان ويعتزلهم فيه أهل الجاهلية، ويجدون به هجرة داخل بلادهم، وانقطاعاً عن كل مظاهر الجاهلية وفسادها حتى يحققوا قيم الإيمان من الإيثار والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والنصيحة لله ورسوله، والصبر والجلد في الحق، ولم يكونوا لينالوا هذه المدرسة لولا أن فرض عليهم هذا الحصار الجائر، فذلك من منحة الله سبحانه وتعالى.

وكل من أصيب ببلاء وهو من المؤمنين فهو عرضة لرحمة الله، فالله سبحانه وتعالى قد وسعت رحمته كل شيء.

وأحق الناس بالرحمة الضعفاء، ولذلك قال عيسى بن مريم فيما أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، فأهل البلاء يستحقون الرحمة، ومن هنا من ابتلي فصبر فقد تعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى ومنحه.

ثامناً: تذكر قرب الفرج: فالفرج إنما يأتي مع الشدة، والنصر إنما يكون مع الصبر كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وقال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فليتذكر الإنسان قرب الفرج، وأن الهم والمحنة إنما هي بأمر الله، وتقريبها وتصريفها وتغييرها بيده {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ما بين طرفة عين وانتباهتها يقلب الأمر من حال إلى حال ولذلك فإن أبا عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأحد النحويين المشهورين كان من القراء الذين اختارهم الحجاج، في العراق عند تنقيطه للمصحف وضبطه له وتحزيبه وتعشيره، فكان يقرأ على الحجاج فقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، والحجاج يقرأ بقراءة أهل الحجاز وهي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ) فأنكر عليه الحجاج فقال: هكذا سمعت، وحدثه أن روايته هكذا، وقال: لتأتين بشاهد من العربية على أن (فعلة) تأتي بمعنى المرة خلال شهر أو لأجعلنك نكالاً، فخرج أبو عمرو في الأعراب في الصحراء يتلمس الشاهد على ذلك حتى لم يبق من الشهر إلا يوم واحد خرج مهموماً مغموماً، فإذا راكب يتغنى وينشد أبياتاً سمعها أبو عمرو فإذا فيها الشاهد، وإذا هو يقول: قد يموت الجبان في آخر الصـ ـف وينجو مقارع الأبطال ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال وهذا الشاهد في قوله: ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال فالفُرجة والفَرجة معناهما واحد وهما للمرة كالغُرفة والغَرفة، ففرح بذلك أبو عمرو فرحاً شديداً، فلما استقبله الراكب قال: ما وراءك من الخبر.

قال: مات الحجاج فإذا هو فرح آخر.

فقال: ما أدري بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بوجود الشاهد! فالفرج قريب جداً.

تاسعاً: أن يتذكر الإنسان أن الناس لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، وأنهم إنما تسلطوا عليه بتسليط الله تعالى لهم، ولولا تسليط الله لما استطاعوا الوصول إلى شيء من ذلك، وأن النمل إذا سلطه الله كان كالأسود، وإذا لم تسلط الأسود فلا ضرر يخشى منها: ما للورى بدفاع جندك طاقة نمل مسلطة ضراغم عثَّرَ فإذا تذكر الإنسان هذا الحال هان عليه ما يلقاه من المخلوقين، ولم يغتر بأي وعد منهم، ولم يحزن لأي وعيد، فهو يعلم أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وأن أرواحهم في قبضة يده متى ما شاء أخذها، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إليه بشيء إلا بشيء قد كتب عليه من قبل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

فليتذكر الإنسان أن الذين يخاف من بطشهم ونكالهم هم عرضة للموت في كل حين، وعرضة لزوال الأمر، وعرضة لتغير القلوب والآراء، وليتذكر أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن متى شاء غير آراءهم وغير اتجاهاتهم، وكل ذلك قريب جداً، ومن هنا فلن يغتر بوعدهم، ولن يحزن لوعيدهم.

عاشراً: تذكر أن الثبات والصبر من المروءة: فليتذكر الإنسان أن الثبات والصبر من أعظم خصال المروءة، وأن عليه أن يتحلى بهما لتمام مروءته، ولهذا فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات لـ عمر بن الإطنابة، وهي قوله: أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح).

فإذا كان الإنسان يعلم أن ثباته وصبره هو من المروءة ومن الخصال الحميدة، فذلك مدعاة لأن يصبر ويصمد ويثبت، وهنا أذكر أبيات جعفر بن عتبة الكلابي فإنه يقول: هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق عجبت لمسراها وأنى تخلصت إليّ وباب السجن دوني مغلق ألمت فحيت ثم قامت فودعت فلما تولت كادت النفس تزهق فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم ولا أنني بالمشي بالقيد أخرق ولكن اعترتني من هواك صبابة كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق

الحادي عشر: تذكر العاقبة الحسنة: فإن الذين صبروا وثبتوا سيكونون أبطالاً، وسيخلدهم التاريخ ويدخلون من بابه الواسع، ويُعجب بهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وبذلك سيحققون أكبر المكاسب وأغلاها لدى الناس، ومن المعروف أن كل إنسان لا يزال يتذكر للصابرين الثابتين مقامهم، وهو يرى أنهم من أمثال الجبال الصامدة أو هم أعظم من الجبال، فذلك الإعجاب لا يمكن أن يقع إلا على أساس اتصاف الإنسان بصفة عظيمة تستحق الإشادة والتقدير، وهذه الصفة هي صبره وثباته مع كل ما يصيبه من أنواع الضغوط التي يتعرض لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى