1/ فإن الله عز وجل حدثنا عن صفات عباده المؤمنين في صدر سورة البقرة في خمس آيات، ثم حدثنا عن الكفار في آيتين، ثم أفرد للفريق الثالث وهم المنافقون ثلاث عشرة آية، لم؟ لأنهم أعظم خطراً من الكفار {هم العدو فاحذرهم} فالكافر قد أظهر عداوته وبدا شنآنه أما المنافق فهو من بني جلدتنا، ويتحدث بلساننا، ويخالطنا في مجالسنا، ويطلع على أسرارنا، فخطورته دونها كل خطورة؛ ولذلك ما تكاد سورة من سور القرآن المدني تخلو من حديث عن النفاق وأهله، بل في القرآن سورة كاملة تسمى سورة المنافقون، فما هو النفاق؟ وما حديث القرآن عنه؟
2/ تعريف النفاق في الاصطلاح الشرعي: فهو أن يكون كافراً بقلبه ويظهر للناس أنه مسلم بقوله أو بفعله. قال ابن رجب رحمه الله: النفاق الأكبر وهو: أن يظهر الإنسان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه. فيطلق النفاق على الدخول في الدين، من باب أو بوجه التلفظ بالشهادتين مثلا والخروج منه من باب أو بوجه آخر.
3/ قال الإمام الذهبي عقب حديث «أربع من كن فيه»: وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص، فشعب النفاق كلها من الكذب والخيانة والجور والغدر والرياء وطلب العلم ليقال عالم، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى، فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه غلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو حرج من قضاياه، أو يصوم غير محتسب، أو يجوِّز أن دين النصارى أو اليهود دين مليح ويميل إليهم، فهذا لا تَرْتَبْ في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، فإن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها.
3/ يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي رضي الله عنه: أنه مرَّ بأبي بكر رضي الله عنه وهو يبكي، فقال: مالك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة).
ومما ورد في هذا المعنى أي خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر: والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلِّهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلَّ من هؤلاء كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم.
حديث القرآن عن المنافقين
- ساعون في الشر والفساد {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}
- يتهمون المؤمنين بما هم غارقون فيه {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}
- الكذب منهجهم {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}
- الخداع طريقهم {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}
- موعودون بالنار {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} {بشِّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما}
- فجار فساق {إن المنافقين هم الفاسقون}
- جهال أغمار {ولكن المنافقين لا يفقهون} {ولكن المنافقين لا يعلمون}
4/ ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري رحمه الله (لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات) وقال ابن القيم (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين!! فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك)
حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم)
وما أشبه الليلة بالبارحة؛ إن المنافقين على أيام رسول الله صلى الله عليه وسـلم كان نفاقهم يظهر في وقت الشدة؛ حين تدلهم الخطوب وتعظم الأخطار ويحيط الكرب بالمسلمين من كل ناحية؛ يقول الله عز وجل في وصف حال المنافقين يوم الأحزاب {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أَيْ بُخَلَاءَ عَلَيْكُمْ، أَيْ بِالْحَفْرِ فِي الْخَنْدَقِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: بِالْقِتَالِ مَعَكُمْ وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وَقِيلَ: أَشِحَّةً بِالْغَنَائِمِ إِذَا أَصَابُوهَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
(فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وَصَفَهُمْ بِالْجُبْنِ، وَكَذَا سَبِيلُ الْجَبَانِ يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا مُحَدِّدًا بَصَرَهُ، وَرُبَّمَا غُشِيَ عَلَيْهِ. وَفِي “الْخَوْفُ” وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ قِتَالِ الْعَدُوِّ إِذَا أَقْبَلَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّانِي: الْخَوْفُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَلَبَ، قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ. “رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ” خَوْفًا مِنَ الْقِتَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَمِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّانِي. “تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ” لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ حَتَّى لَا يَصِحَّ مِنْهُمُ النَّظَرُ إِلَى جِهَةٍ. وَقِيلَ: لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ حَذَرًا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْقَتْلُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير) قَالَ قَتَادَةُ: وَمَعْنَاهُ بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ فِي وَقْتِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، يَقُولُونَ: أَعْطِنَا أَعْطِنَا، فَإِنَّا قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ. فَعِنْدَ الْغَنِيمَةِ أَشَحُّ قَوْمٍ وَأَبْسَطُهُمْ لِسَانًا، وَوَقْتَ الْبَأْسِ أَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْوَفُهُمْ
(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) يَعْنِي بِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُمُ الْإِيمَانَ، وَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوَصْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْكُفْرِ. (فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أَيْ لَمْ يُثِبْهُمْ عَلَيْهَا، إِذَا لَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- وَكَانَ نِفَاقُهُمْ عَلَى اللَّهِ هَيِّنًا. الثَّانِي- وَكَانَ إِحْبَاطُ عَمَلِهِمْ على الله هينا.
5/ من صور النفاق في أيامنا هذه خروج بعضهم ليعلن ما كان يخفيه من فاسد الديانة وسوء المعتقد؛ حين يخرج كذاب أشر نيط به أمر المناهج ووكل إليه رئاستها في هذا الزمان النكد ليعلن أن صاحبه الهالك المرتد هو حامل الرسالة الثانية، وأن النبوة لن تجد بعد محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من صاحبه ليحملها وأنه هو والضالون من نحلته صحابته ليبشروا برسالته الثانية، وحين نجد كذاباً آخر نيط به أمر الإعلام وأسندت إليه وكالة وزارة الإعلام يخرج على الناس ليعلن أن التشريعات الإسلامية من مخلفات القرون الوسطى، وهكذا تتعدد صور النفاق في هذا الزمان العجيب
ومن صور النفاق ما سعوا به في ضرر المسلمين في هذه البلاد من تلفيق بحوث وترويج أكاذيب ونحل قصص أرادوا من خلالها إثبات أن في السودان رقاً وإبادة جماعية وتطهيراً عرقياً، وظلماً للأقليات الدينية، ثم بعد ما تحقق لهم ما أرادوا من إحكام الحصار على البلاد وتضييق معايش أهلها، وبعدما صاروا هم الحكام أرادوا رفع تلك العقوبات ولكن هيهات هيهات!! فضحهم أسيادهم حين أعلنوا أن تلك القرارات كانت بسبب تلك التقارير والبحوث وجلسات الاستماع في الكونجرس وغيره؛ فهل عند هؤلاء من الشجاعة ما يحملهم على القول بأنهم كانوا كاذبين؟ وعلى الله وعباده مفترين.