كيف يكون قيام من أ نزل عليه: {قم الليل إلا قليلا} وكيف يكون حال من أنزل عليه {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} إن حال النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام الليل حال عاجبة، عندما نقف معها ونتأملها نشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقوم الليل كأنما تعرج روحه وأشواقه إىل الملأ الأعلى يتضح ذلك من:
أولاً: اختيار وقت الاستيقاظ لقيام الليل، فيستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم في نصف الليل الآخر وقت التنزُّل الإلهي، وإذا نظرت إلى هذا الوقت بالنسبة ليوم النبي الكامل نلحظ أن هذا الوقت هو ذروة نشاط النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مسبوق بأطول فترة نوم ينامها صلى الله عليه وسلم، فهي من أول الليل إلى نصفه، أما بقية فترات نومه فهي أوقات قصيرة في آخر الليل أو القيلولة، وكأنما فترة النوم الطويلة تهيئه لانبعاث لعمل مهم، ونشاط يحتاج إلى استيقاظ كامل فيختار له النبي صلى الله عليه وسلم الوقت الذي قد استجم فيه جسده، واستجمع فيه قوته وعافيته ويقظة ذهنه
ثانياً: نلاحظ أنه يتهيأ للقيام بمجموعة استعدادات تشعرك أنه يتهيأ بها للدخول في عبادة يستغرق فيها استغراقاً كاملاً فعندما يستيقظ من النوم يمسح النوم عن وجهه المقدس، ويطيب فمه الطيب، بالسواك، ثم ينظر إلى السماء كأنما يتناجى مع نجومها وينظر إلى عظمة صنع الله فيها وهو يقرأ: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}، حتى يتم آخر العشر آَيات من سورة آل عمران، ثم يقوم صلى الله عليه وسلم إلى شن معلقة فيتوضأ منها ثم يلبس صلى الله عليه وسلم لباسه ويتهيأ للصالة
ثالثاً: من تهيؤه للصالة الذكر قبلها، تذكر أمنا عائشة أنه كان قبل أن يصلي صالة الليل يسبح عشرا ، ويهلل عشرا، ويكبر عشرا ، ثم يبدأ الليل بركعتين خفيفتين كأنما هي تحضير لطول القيام، فإذا صلى عليه الصلاة والسلام صلاة التهجد صلى صلاة تشعر من وصفها أنه مستغرق فيها كامل الاستغراق، ومن استغراقه فيها أنه يبدؤها إذا كبر بأدعية الاستفتاح وبأذكار مفصلة طوال كلها تعظيم لله وثناء عليه وتوسل إليه، فيستفتح استفتاحا طويلاً غير استفتاحه عندما يصلي الصلوات المكتوبة التي يقصر فيها دعاء الاستفتاح، فتستشعر أنها نجوى مع الله عز وجل فيها تعبد وتلذذ، ومن استفتاحه في صلاة الليل أن يقول: (اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن لك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت« . كل هذا التأله قبل أن يقرأ الفاتحة
رابعاً: فإذا قرأ الفاتحة قرأ قراءة مترسلة يقف عند كل آية، ثم قرأ فأطال القراءة كأنما روحه تعرج إلى السماء، لقد كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى فهو أخف الناس صلاة، أما إذا قام إلى صلاة الليل فهو أطول الناس صلاة، صلى معه حذيفة ليلة، قال: فاستفتح سورة البقرة فقلت يركع عند المئة، فمضى، فمضى، فقلت يتم البقرة ثم يركع، فمضى، فاستفتح النساء ثم استفتح آل عمران يقرأ قراءة مترسلة مرتلة، لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا يمر بآية عذاب إلا استعاذ، ولا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ثم ركع فجعل يقول: (سبحان ربي العظيم) فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال (سمع الله لمن حمده) فقام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد، فقال (سبحان ربي الأعلى) فكان سجوده قريباً من قيامه.
خامساً: ثم يناجي ربه في سجوده مناجاة ضارعة فيها ذل المسألة، والإلحاف في الدعاء، والتلذذ بالنجوى.
وكان ورده المعتاد من القيام أن يقوم ثلث الليل كقيام نبي الله داود عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم (إن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوما، وأحب القيام إلى الله قيام داود كان ينام من الليل نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه)