1/ لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما كان ينالهم من التعذيب والإهانة وأنه لا يقدر على أن يمنع عنهم ما يصيبهم قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة فراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وقد روى الواقدي أن خروجهم إليها كان في رجب سنة خمس من البعثة.
2/ فكان أول من خرج عثمان بن عفان ومعه زوجه رقية بنت رسول الله، ولما بلغ رسول الله ذلك قال: «صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام» ثم خرج أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وزوجه سهلة بنت سهيل بن عمرو، فولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، وخرج الزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجه أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وولدت له بها زينب، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف ال الخطاب وزوجه ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء، فكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: وخمس نسوة بزيادة أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو زوج أبي سبرة.
3/ ثم خرجوا ما بين ماش وراكب حتى انتهوا إلى البحر، فاستأجروا سفينة حملتهم إلى الحبشة بنصف دينار، وخرجت قريش في آثارهم فلم يدركوا منهم أحدا. ويقال: إن قريشا أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدايا وتحف إلى النجاشي ليردهم إلى قومهم فأبى، وردهما خائبين. وأما بعد هجرة الحبشة الثانية فقد أرسلت عمرا وعبد الله بن أبي ربيعة، والمحققون على أن الإرسال إنما كان بعد الهجرة الثانية وهو الصحيح، فقد كان المتكلم عن المهاجرين جعفر بن أبي طالب، والصحيح أنه لم يهاجر إلا في الثانية.
4/ ثم كانت الهجرة الثانية إلى الحبشة حي خرجوا مرة أخرى، وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم، وعدتهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم، واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي: وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما، وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارا، ثم الذين ولدوا لهم فيها.
5/ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً واستقرارا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ولا يسمعون شيئا يكرهونه، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين منهم جلدين، وأن يرسلوا معهما للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا في شأنهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا. فقدما عليهم، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا قدموا له هدية، وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومنا ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وذكر موسى بن عقبة في «مغازيه» أنهم أهدوا إليه فرساً وجبّة ديباج، فقالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقال بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بهم، فأسلمهم إليهما. فغضب النجاشي ثم قال: لا، لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم، فأنظر ما أمرهم؟ قوم لجأوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني!!
6/ ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما جاءهم رسوله قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا – وقد استدعى النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله – سألهم، فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟! فتولى الكلام عنهم سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنوحِّده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة.. وعدّد عليه أمور الإسلام. فصدّقناه، وامنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك!! فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
7/ فلما خرجا من عند النجاشي قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. ثم غدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم ليسألهم عما يقولون فيه، فلما جاء الرسول قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول – والله – ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن!! فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود!! فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم غرم (ثلاثا)، ما أحب أن لي دبراً من ذهب وأني اذيت رجلا منكم، ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فخرجا من عنده مقبوحين، مذمومين مدحورين، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار، مع خير جار، حتى قدم منهم من قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد، وبقي من بقي حتى قدموا عقب خيبر سنة سبع.
8/ إن في هذه القصة فوائد لكل مسلم يهمه أمر دينه، ومن تلك الفوائد أيها المسلمون عباد الله:
- أن المسلم لا تضيق به أرض الله؛ فله فيها متسع {إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون}
- أن المسلم يدعو إلى الله ويدل الناس على الله – بحاله ومقاله – في كل مكان يحل به
- أن المسلم لا يعطي الدنية في دينه، ولا يداهن فيخبر بخلاف الحق الذي يعتقد
- أن المسلم يحسن عرض رسالة الإسلام ويوجز في ذلك ويفصح بفقه وعلم
- أن المسلمين يحسنون اختيار من يمثلهم، وليس هم كل واحد منهم أن يظهر ويشار إليه
- أن رسالة الإسلام عقيدة وعبادات وأخلاق وسلوك
- أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بمن شاء من عباده
- أن المستبدين الظلمة يسوؤهم أن يصيب المسلمون أرضا يعبدون فيها ربهم ويظهرون فيها شعائر دينهم ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم وأعراضهم
- أن أنظمة القهر والاستبداد والظلم تستعمل الوسائل الفاسدة للوصول إلى أغراضها، من كبت معارضيها وإذلال مناوئيها
- أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه، وذلك ظاهر في خبر النجاشي وحسن خاتمته رحمه الله ورضي عنه
9/ يا مسلم: استعن بالله ولا تعجز، لتكن ثقتكم بالله عظيمة ورجاؤكم فيه كبيرا، {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} قال الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن بها هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في القرآن {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم} {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}