الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون + هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمَّى عنده ثم أنتم تمترون + وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون + وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبي الأمي الكريم، وارض اللهم عن صحابته وآل بيته الذين عزَّوره ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. أما بعد.
فمع أطول سور القرآن وأكثرها آيات وأغزرها أحكاماً وأشملها موضوعات، مع سورة البقرة التي نقرؤها فنزداد يقيناً بأن الإسلام دين رب العالمين الذي رضيه لنفسه واختاره على الدين كله، أنزله لصلاح الناس في المعاش والمعاد، وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه في العاجل والآجل، لأرواحهم وأجسادهم، لدنياهم وآخرتهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} سورة تتناول العقائد فتحدِّثنا عن الإيمان بالغيب، تحدِّثنا عن أركان الإيمان عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، تحدِّثنا عن الجنة والنار كأنا نراها رأي عين؛ وتحدِّثنا عن المؤمنين والكفار والمنافقين وخصال كل طائفة وصفات كل فريق، سورة تتناول أركان الإسلام وأحكامه في الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة والغزو والجهاد والقصاص والأيمان، تحدِّثنا عن حِلِّ البيع وحرمة الربا والخمر والميسر، وأحكام الأموال إنفاقاً ومداينة، سورة تتناول أحكام الأسرة تفصيلا في الزواج والطلاق والعدة والرجعة والنفقة والمتعة والرضاعة والإيلاء، تخبرنا عما كان في الأمم الغابرة والقرون الداثرة عن آدم وحواء، عن إبليس والملائكة، عن هاروت وماروت، عن بني إسرائيل، عن إبراهيم وإسماعيل، عن يعقوب وبنيه، عن عزير والنمرود، عن آيات الله في الأنفس والآفاق، يتكرر فيها النداء بوصف الإيمان إحدى عشرة مرة؛ ثم تختم السورة بذلك الدعاء الخالد {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
- في أسماء السورة الكريمة؛ الشيء كلما عظُم شأنه كثرت أسماؤه، وهذه السورة البقرة لهم من الأسماء:
- البقرة: سميت السورة بهذا الاسم لقصة البقرة الواردة فيها، حيث قتل في بني إسرائيل قتيل، فأمرهم الله تعالى على لسان موسى صلى الله عليه وسلم أن يذبحوا بقرة، وبعد كثير من المماطلة والتلكؤ ذبحوها، فأمروا أن يضربوا جسم القتيل ببعض البقرة، فأحياه الله تعالى، وأخبر عن قاتله، وذلك في الآيات الكريمة من الآية السابعة والستين إلى الآية الرابعة والسبعين.
- وتسمى الزهراء: ففي الصحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» وأصل الزهر: الحسن والضياء والصفاء، والزهرة: النجم المعروف، والأزهر: القمر، وزهرت النار: بمعنى أضاءت، والزهراوان:” النيّرتان، مأخوذ من الزهر والزهرة: فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما، وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة”، والغيايتان والغمامتان: كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما، والمراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين.
- وتُسَمَّى سَنام القرآن: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لكلِّ شيءٍ سناماً، وسنامُ القرآنِ سورةُ البقرةِ، وإنَّ الشيطانَ إذا سمعَ سورةَ البقرةِ تُقرأُ خرجَ منَ البيتِ الذي يُقرأُ فيهِ سورةُ البقرة» رواه الحاكم والبيهقي، وسنام كل شيء أعلاه، وسورة البقرة سنام القرآن” إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة، أو لما فيها من الأمر بالجهاد، وبه الرفعة الكبيرة”.
- وتسمى فسطاط القرآن: كما كان يسميها خالد بن معدان، وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها”، والفسطاط: البيت من الشَّعر.
- وهي أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة النبوية المباركة، وقد نزل قبلها خمس وثمانون سورة من سور القرآن، وفيها آخر آية نزلت من القرآن، وهي قوله تعالى في الآية الحادية والثمانين بعد المائتين {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وفيها سيدة آي القرآن، وفي ختامها آيتان من قرأهما في ليلة كفتاه.
- آياتها ست وثمانون ومائتا آية، وكلماتها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمس وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف
- في فضلها جملة من الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَ» وعن أبي بن كعب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلا أُعْطِيتَهُ» وعن أبي مسعود البدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» وعن عبد الله بن مسعود، قال صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» وروى كثير بن عباس عن أبيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما ولى المسلمون يوم حنين: «يا عباس! ناد قل: يا أصحاب السمرة، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ»