1/ من هو الشهيد؟ يطلق هذا اللقب بالأصالة على من يُقتل أثناء حرب مع العدو، سواء أكانت المعركة جهاد طلب أي لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها، أم جهاد دفع أي لدفع العدو الذي هاجم بلاد المسلمين. وقد ذكر رسول الله: (من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد). وكذلك من مات غرقاً أو حرقاً فهو شهيد.
2/ ورود اللفظ في القرآن: جاء لفظ الشهيد في القرآن الكريم لمرة واحدة بهذا المعنى في قوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا} وهو قول منسوب للمبطلين ساقه الله تعالى في القرآن للبلاغ، وأما ماورد باللفظ “شهيد” من غير ذلك فلا علاقة له بهذا المعنى.
3/ تعدّدت أقوالُ الفُقهاء في الضّوابط والشُّروط التي تُحدّد مفهوم الشهيد؛ لأنها لفظةٌ عامة تشمل كُل من أثبت له الشرع صفة الشهادة، كما أنّ له أحكاماً خاصّةً به تختلفُ عن باقي الموتى، فعرّفهُ بعض العلماء كالحنفية: بأنه المُسلم، المُكلّف، الطاهر، الذي يُقتل ظُلماً بِجارحة، كقطع الطريق عليه؛ فلو قُتل من غيرِ ظُلم؛ كالحدِّ أو القِصاص، فلا يُعدُّ شهيداً، وكذلك مَن مات متأثّراً بجراحه بسبب معركة، وعرّفهُ جمهور الفقهاء: بأنّه الذي يُقتل في المعركة.
4/ شروط نيل أجر الشهادة: قال السبكي في فتاواه عندما سئل عن الشهادة وحقيقتها، قال: إنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة. اهـ، ومن هذه الشروط: الصبر والاحتساب وعدم الموانع كالغلول، والدَّين، وغصب حقوق الناس، ومن الموانع كذلك: أن يموت بسبب معصية كمن دخل داراً ليسرق فانهدم عليه الجدار فلا يقال له شهيد، وإن مات بالهدم، وكذلك الميتة بالطلق الحامل من الزنا. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدًا؟ فأجاب: نعم مات شهيدًا إذا لم يكن عاصيًّا بركوبه… اهـ وقال في موضع آخر: ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها، فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه فلا يكون شهيدًا
4/ لماذا سمي شهيدا؟ أورد الإمام النوويّ -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم عدّة أسباب لتسمية الشهيد بذلك
- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يشهدون لَهُ بِالْجَنَّةِ فَمَعْنَى شَهِيدٍ مَشْهُودٌ لَهُ
- وَقِيلَ سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ ماله مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ
- وَقِيلَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يشهدون فَيَأْخُذُونَ رُوحَهُ
- وَقِيلَ لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةِ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ
- وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا وَهُوَ دَمُهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا
- وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ سُمِّيَ شَهِيدًا لِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ
5/ أقسام الشهداء ثلاثة: فمنهم من يكونُ شهيداً في الدُّنيا والآخرة، ومنهم من يكون في الدُّنيا فقط، ومنهم من يكونُ من شُهداء الآخرة.
- شهيد الدنيا والآخرة هو الذي يُقتل في أثناء جهاده ضدّ أعداء الدين، مُقبلاً غير مُدبرٍ؛ لأجل إعلاء كلمة الله تعالى من غير نظرٍ إلى أغراض الدُّنيا، فقد قالَ أَعْرَابِيٌّ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَن في سَبيلِ اللَّهِ؟ فَقالَ: (مَن قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ) فهو الصادق في قتاله، ففي الدُّنيا شهيد؛ لأنهُ تُطبّق عليه أحكام الشهيد في الدُنيا؛ فيُكفّن بثيابه، ولا يُغسّل، ولا يُصلَّى عليه، وفي الآخِرة ينال منزلة الشُهداء
- شهيد الآخرة هو الشهيد الذي لا تُطبَّق عليه أحكام الشهيد في الدُّنيا؛ كالتكفين بثيابه، ولكنّ له أجر الشهيد في الآخِرة، وهم على عدّة أصنافٍ؛ كالمبطون، والمطعون، ومن مات في الهدم، ومن يُقتل دون ماله، وغير ذلك من الأصناف التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، وكذلك الغريق، وصاحب ذات الجنب؛ وهو الذي يظهر في جنبه الدُمّل الكبيرة، وتنفجر داخل الجسم ويموت بسببها.
ومن الشّهداء كذلك مَنْ يموتُ دون دينهِ، أو أهلهِ، أو دمهِ، أو نفسهِ، أو مظلمته، وصاحبُ الحريق، والمرأة التي تموت بسبب ولادتها، وتُسمّى ذاتُ جمع، وكذلك الذي يموتُ بِداء السِّل، ووردت بعضُ هذه الأنواع في قول النبيّ عليه الصلاةُ والسلام: (الشهادةُ سبعٌ سوى القتلُ في سبيلِ اللهِ، المقتولُ في سبيلِ اللهِ شهيدٌ، والمطعونُ شهيدٌ، والغريقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيد، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ، والذي يموتُ تحتَ الهدْمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدة) بالإضافةِ إلى من يموت بالطاعون؛ وهو الذي يقعُ في أرضه الطاعون ولا يخرج منها صابراً مُحتسباً ويموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطَّاعونُ شَهادةٌ لِكُلِّ مسلِمٍ) في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال) الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) وروى ابن ماجه وأبو داود وغيرهما من حديث جابر بن عتيك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد) والمبطون كما يقول النووي في شرح صحيح مسلم: وأما المبطون فهو صاحب داء البطن، وهو الإسهال، وقال القاضي: قيل: هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا، انتهى، وقوله (والمرأة تموت بجُمع شهيدة)، أي تموت وفي بطنها ولد، فإنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل وهو الحمل، وقيل: هي التي تموت بكرًا، والأول أشهر كما قال الحافظ في الفتح، هذا وخصال الشهادة أكثر من هذه السبع ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة.. وذكر منهم اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخار عن دابته، والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، ومن تردى من رؤوس الجبال. وقال النووي في شرح صحيح مسلم :قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة يتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها، اهـ ، وقال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء ، اهـ نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وقال الحافظ في فتح الباري :والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: من عُقر جواده وأهريق دمه. رواه الحسن بن علي الحواني في كتاب المعرفة له بإسناد حسن من حديث ابن أبي خالد قال: كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد غير أن الشهادة تتفاضل.. انتهى
- شهيد الدنيا هو الشّهيد الذي تُطبّق عليه أحكام الشهيد في الدُنيا؛ كتكفينه بثيابه، وعدم تغسيله أو الصّلاة عليه، ولكنّه لا ينالُ أجر الشهيد في الآخرة، وهذا النوع هو الذي يُقتل في المعركة، ولكن جهادهُ لم يكُن لأجل الله تعالى، أو يكون قد غَلّ في الغنائم، أو قاتل سُمعةً ورياءً، أو لأيِّ غرضٍ من أغراض الدُنيا، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه رجُلٌ استُشهِد فأتى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ. قال: كذَبتَ. ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ)
6/ أيها المسلمون عباد الله: قد صار هذا اللقب الشريف في زماننا مبتذلا، يطلق كثيراً على من لا يستحقه؛ فلربما يطلق على من عرف عنه عداوته لله ورسوله وسعيه بالفساد في الأرض، ولربما يطلق على من امتلأت صفحته بالسخرية من الدين وأهله، وتحقير شعائر الله، ولربما يطلق على أجلب بخيله ورجله يبتغي الفتنة، وهذا كله تجاوز لحدود الله ومداهنة في دين الله.
إن الشهادة منزلة رفيعة في دين الله، تلي منزلة النبيين والصديقين؛ قال سبحانه {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فما بالنا نتساهل في إطلاقها على كل من هب ودرج؟ {مالكم كيف تحكمون؟ أفلا تذكرون؟ أم لكم سلطان مبين؟ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين}
إن حرياً بنا أن نصون تلك المنزلة الشريفة عن الابتذال، وأن نحميها من أن يُنال جنابها أو يُدنس شرفها، بإطلاقها على من لا يستحقها ولا هو مؤمن بحقيقتها.
وقد رأينا في الأيام التي خلت كيف اجتمع فئام من السفهاء على شرطي يؤدي واجبه، وأشبعوه صفعاً وركلاً وضرباً بالعصي حتى دمَّوا وجهه، وبعضهم يصيح في هياج قائلاً له: يا ود الحرام!!! هكذا قذف للأعراض واتهام للشرف ونفي للنسب ووقوع فيما حرم الله عز وجل، ثم بعد ذلك يطلق على أمثال هؤلاء – فيما لو أصيب أحدهم بسهم غرب – (شهيد) كيف يطلق هذا اللقب على من يتناولون المخدرات ويخرجون لغير هدف يسبون ويشتمون ويعتدون ويعطلون مصالح الناس بإغلاق الشوارع وتخريب العامر؟
إن بلادنا – أيها المسلمون – يراد لها أن تساق لمسلسل من العنف الدامي والخراب السريع، وإن ناساً من أيتام السفارات وعملاء المخابرات يغذُّون السير ويحثون الخُطا لبلوغ تلك الحال، التي هي أمنية من لا يريد للبلاد استقرارا ولا للعباد خيرا. نسأل الله تعالى أن يفيِّل رأيهم ويبطل سعيهم ويرد كيدهم في نحورهم ويجعل مكرهم وبالاً عليهم.