خطب الجمعة

من كان يرجو لقاء الله

خطبة يوم الجمعة 23/9/1439 الموافق 8/6/2018

الحمد لله الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.

1/ إن الله تعالى ذم ناساً بأنهم لا ينتظرون لقاء الله، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه. ومن ثَمَّ لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات وتصورات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله؛ ما ذكروا لقاء ربهم ولا استعدوا له، ولا أخذوا للأمر أهبته، بل كانوا في غيهم سادرين وفي لهوهم لاعبين، فريق لا يرجو ولا يطمع في لقاء الله. فماذا قال الله عنهم:

  • أخبر جل جلاله عن عظيم غفلتهم {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}
  • وأنهم معاندون متعنتون معترضون على الوحي بآرائهم السقيمة وعقولهم الكليلة {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}
  • يقترحون على الشرع ويفتئتون على الدين {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}
  • وأخبر عن عظيم حلمه عليهم فقال {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
  • أما مصير هؤلاء فما أبأسه وما أتعسه؛ قال عز وجل {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} وقال سبحانه {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال جل جلالـه {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}

  2/ أيها المسلمون: لنحذر تمام الحذر من الغفلة عن لقاء الله والاستغراق في الذنوب والمعاصي والتسويف في التوبة والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله،

إذا تم أمر دنــــــــــــــــــــــــا نقصه توقع زوالاً إذا قيل تم

إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

وحافظ عليها بتقوى الإله فإن الإله سريع النقــــم

إنه لا يرجو لقاء الله ويشتاق للنظر إلى وجهه الكريم إلا العبد المحسن الموفَّق. قال الله تعالى {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} في الآية كما يقول سيد قطب  رحمه الله: «تطمين الذين يرجون لقاء الله، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} فلتقرَّ القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن، ولتنتظر ما وعدها الله إياه انتظار الواثق المستيقن، ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين. والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية. صورة الراجي المشتاق، الموصول بما هناك. ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح. ويعقب عليه بالطمأنينة الندية، يدخلها في تلك القلوب. فإن الله يسمع لها، ويعلم تطلعها: {وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}.ا.هـــــــ

3/ وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الخلق في هذا الأمر بألفاظ واضحة؛ فبيَّن أن رجاء لقاء الله وتمني لقائه يختلف باختلاف أحوال الناس الإيمانية والعبادية، وأن العبد كلما كان أكمل توحيداً وأخلص عملاً، وأفضل حالاً، وأتبع للسنة، فسيتمنى لقاء الله ويحبه إذا بُشِّر به بخلاف غيره؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَقَالَ: «لَيْسَ كَذَلِكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».

 وللإمام ابن القيم – رحمه الله رحمة واسعة – كلام نفيس في رجاء لقاء الله، وبيان أحوال أهل هذه المنزلة والدرجة من عباد الله. قال رحمه الله في منزلة الرجاء: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب والخوف والرجاء.

قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وقال تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه»، وفي الصحيح عنه : «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».

3/ فما هو الرجاء؟ الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيِّب لها السير، وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه، وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى.

  والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل؛ فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها.

  والثاني: كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع.

  ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل.

  والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم؛ فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راجٍ لثوابه، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها فهو راجٍ لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.

والثالث: رجل متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.

وللسالك نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبرِّه.

ونظر يفتح عليه باب الرجاء؛ ولهذا قيل في حدِّ الرجاء: هو النظر إلى سَعة رحمة الله.

وقال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.

علامات صحة الرجاء:

قال شاه الكرماني: علامة صحة الرجاء: حُسْن الطاعة.

وسئل أحمد بن عاصم: ما علامة الرجاء في العبد؟ فقال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهم الشكر؛ راجياً لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة، وتمام عفوه عنه في الآخرة.

واختلفوا أي الرجائين أكمل: رجاء المحسن ثواب إحسانه أو رجاء المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه؟ فطائفة رجَّحت رجاء المحسن؛ لقوة أسباب الرجاء معه، وطائفة رجحت رجاء المذنب؛ لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل، مقرون بذلة رؤية الذنب.

قال يحيى بن معاذ مناجياً لربه تبارك وتعالى: يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أصفيها وأحرزها، وأنا بالآفات معروف؛ وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.

وقال أيضاً: إلهي أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحب الساعات إليَّ ساعة يكون فيها لقاؤك» اهـ.

4/ وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الدنيا، دائم التطلع للقاء ربه، يشتاق لرؤية الله تبارك وتعالى ويدعو ربه أن يرزقه حقيقة الشوق وأعلاه، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: «اللَّهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي! اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرَّة عين لا تنقطع، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين».

ولهذا لما خُيِّر صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة، اختار لقاء الله؛ فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ – وَهُوَ صَحِيحٌ -: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ»، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»، فَقُلْتُ: إِذاً لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِر كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»

وعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ! لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ! إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ»

4/ كيف يرجو العبد لقاء ربه؟ شرع الله محكم لا يحابي أحداً، ولا يفضِّل أحداً على أحد لمجرد لونه أو جنسه أو حَسَبِه ونسبه، بل جعل الإسلام الناس متساوين في أصل التكليف، وشرع لهم سبل القرب من ربهم، وفتح لهم آفاق معرفته ومحبته وطاعته والاقتداء بسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونبَّه ربنا – جل وعلا – عباده إلى أن طريق الرجاء الحقيقي طريق بذل وعمل، وجد واجتهاد، وتضحيات، وليس مجرد أمنيات فارغة.

قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} فالرجاء في الله والشوق إلى لقائه ليس عبر أماني الحالمين؛ بل لا بد لهذا الشوق والرجاء من عقيدة صافية، وأعمال صالحة، ونيات صادقة. قال تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

 فالرجاء في الله والشوق إلى لقائه لا بد فيه من تعب وكدٍّ، وإنفاق وواجبات، وبعد البذل والإحسان تأتي منزلة تمني ما عند الله والرجاء فيه.

قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فبعد الإيمان والهجرة والجهاد والإنفاق في سبيل الله، بعد هذا كله تأتي درجة رجاء رحمة الله.

 ووضَّح لنا ربنا – جل وعلا – أن من صفات الراجين لفضل الله ورحمته، المتطلعين للقائه، المشتاقين لربهم أنهم يقتدون برسل الله وخيرته من خلقه، ويقتفون آثرهم في الإيمان والعمل الصالح.

 قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وقال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}.

 فلا يكون المسلمُ راجياً لله حقّاً حتى يكون عمله صالحاً، فالرجاء لله لا يكون إلا بعد الأعمال الصالحة، فيرجو من الله قبول ذلك العمل، والإثابة عليه؛ أما مجرد رجاء مع تهاونٍ وتعطيلٍ للأوامر وارتكاب للنواهي، فتلك الأماني والغرور.

 قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فبأعمالهم الصالحة التي عملوها إخلاصاً لله، وقياماً بالواجب، صاروا ممن يرجون رحمة الله؛ فالرجاء بلا عمل أمانٍ كاذبةٍ.

  قال تعالى مبيِّنا فساد الرجاء مع ترك العمل الصالح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، فما داموا في الحياة متفاوتين فهم كذلك بعد الموت متفاوتون.

قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}

5/ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فضَّل الرفيق الأعلى، واختار لقاء الله، فعلى دربه سار أصحابه الذين كانوا يرحبون بالموت، ويحسنون استقباله

  • هذا بلال بن رباح مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الموت، فتبكي زوجته وتولول وتقول: واكرباه واحزناه عليك يا بلالاه! فقال بلال: لا تقولي واكرباه، بل قولي: واطرباه… غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
  • وهذه أسماء بنت عميس رضي الله عنها تقول: إنَّا لَعِنْد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ما ضربه ابن ملجم؛ إذ شهق ثم أغمى عليه ثم أفاق، فقال: مرحباً مرحباً، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة. فقيل له: ما ترى؟ قال هذا رسول الله، وأخي جعفر، وعمي حمزة، وأبواب السماء مفتحة، والملائكة ينزلون يسلمون عليَّ ويبشرون، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور، وهذه منازلي في الجنة {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ}
  • وعن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام رضي الله عنه حتى ذهب بصره، ثم اشتكى فاشتد وجعه، فقلت لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به، فإذا هو يهمهم ويقول: لا إله إلا الله، أحبك وأخشاك. حتى مات.
  • ولما مرض معاذ بن جبل رضي الله عنه مَرَض وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحباً بالموت حبيباً جاء على فاقة، اللهم! إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم! إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.
  • وقيل للحافظ عبد الغني النابلسي رحمه الله عندما أتته الوفاة ما تشتهي؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله الكريم.
  • وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له: كيف علمت ذلك؟ قال: بغَضِّ طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا … … واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

لم ينسه الملكان حين نسيته … … بل أثبتاه وأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت لاه تلعب

والروح منك وديعة أودعتها … … ستردها بالرغم منك وتســــــــــــــــــــــــــــــــــــلب

وغرور دنياك التي تسعى لها … … دار حقيقتها مـــــــــــــــــــــــــــتاع يذهــــــــــــــــــــــب

الليل فاعلم والنهار كلاهما … … أنفاســــــــــــــــنا فيهما تــــــــــعد وتحســـــــــــــــــــب

توبوا إلى الله:

أيا عبد كم يراك الله عاصيا حريصا على الدنيا وللموت ناسيا

أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوما عبوسا تشيب النواصيا

إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى تجرد عريانا ولو كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاصيا

ولو كانت الدنيا تدوم لواحد لكان رسول الله حيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وباقيا

ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي الخواليا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى