1- الحمد لله الذي له مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العفو الغفور، الحليم الشكور، الرؤوف الصبور، وأشهد أن سيدنا وعظيمنا وإمامنا محمداً النبيُّ الرسول، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه ذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أطاعك من خلقك ونعادي بعداوتك من خالفك، ثم أما بعد
2- فإن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسـلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، وتركها على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكان من دلائل نبوته وبراهين صدق دعوته صلوات الله وسلامه عليه أن أخبرنا ببعض ما يكون في قابل الأيام من الفتن التي تدع الحليم حيران، ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام بقوم ينكرون اتباع سنته ويجحدون وجوب طاعته؛ فثبت في مسند أحمد من حديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ) وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسـلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى فظهر فينا ناس يريدون هدم الدين بالتشكيك في السنة جملة، وبإثارة الشبهات حولها وتزهيد الناس فيها، تارة بدعوى أنه لا سبيل إلى التأكد من ثبوتها، وتارة بالطعن في حملتها من الصحابة الكرام بدعوى أن لهم مصلحة في الأحاديث التي نقلوها، وتارة بالدندنة حول عدم أهلية علماء الحديث الذين ميَّزوا الصحيح من السقيم، وأفنوا أعمارهم في خدمة هذا العلم الشريف، وليتهم حين يفعلون ذلك يصدرون عن علم أو هدى، اللهم لا هذا ولا ذاك سوى تقليد أساتيذهم من المستشرقين أو اجترار ما كتبه الرافضة وسوَّدوا به الصحائف من الطعن على الدين جملة؛ ولذا لا يقتصر كلامهم على حديث بعينه، بل بعضهم ينكر السنة جملة، وبعضهم يقول: أنا أتبع السنة الفعلية دون القولية، وبعضهم يقول: أنا لا أؤمن إلا بالمتواتر أما خبر الآحاد فلا حاجة لي فيه، ولذلك تجد هذا الصنف ينكر أشراط الساعة وأخبار الفتن والملاحم، ويقدّم الرأي على المنقول، ويفسّر أحداث التاريخ وفق ما يهوى، ولا يشعر بتعظيم للصحابة الكرام في نفسه، بل ربما حفظ عن بعضهم – عياذاً بالله – الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسه الخاصة، وهؤلاء هم أهل الأهواء الذين تتابعت النصوص في التحذير منهم والتنفير من مسلكهم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
3- هؤلاء الذين ينخدعون من المُسْلِمِينَ بِالمُسْتَشْرِقِينَ والمُؤَرِّخِينَ وَالكَاتِبِينَ من أعداء الإسلام الغَرْبِيِّينَ، لا يوقعهم في الفخ الذي نصبه لهم هؤلاء إلا أحد أربعة أمور غالباً:
- إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامي وعدم اطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية. قال الجاحظ: دخلت واسط فبكرت يوم الجمعة إلى الجامع؛ فقعدت فرأيت على رجل لحية لم أر أكبر منها، وإذا هو يقول لآخر: الزم السنة حتى تدخل الجنة. فقال له الآخر: وما السنة؟ قال: حبُّ أبي بكر بن عفان وعثمان الفاروق وعمر الصديق وعليِّ بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي شيبان، قال: ومن معاوية بن أبي شيبان؟ قال: رجل صالح من حملة العرش وكاتب وحي النبي صلى الله عليه وسـلم وزوج ابنته عائشة!!! وقال بعضهم: مررت على قوم اجتمعوا على رجل منهم يضربونه فقلت لشيخ منهم: ما ذنب هذا؟ قال: يسب أصحاب الكهف. قلت: من أصحاب الكهف؟ قال: ألست مؤمناً؟ قلت: بلى. ولكني أحب الفائدة!! قال: أبو بكر وعمر ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاوية هذا رجل من حملة العرش. فقلت: يعجبني معرفتك بالأنساب والمذاهب. فقال: نعم خذ العلم عن أهله، فقال واحد منهم لآخر: أبو بكر أفضل أم عمر؟ قال: لا بل عمر!! قال: وكيف علمت؟ قال: لأنه لما مات أبو بكر جاء عمر إلى جنازته، ولما مات عمر لم يجيء أبو بكر إلى جنازته.
- وإما انخداعهم بالأسلوب العلمي «المزعوم» الذي يَدَّعِيهِ أولئك الخصوم.
- وإما رغبتهم في الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكري من ربقة التقليد كما يَدَّعُونَ.
- وإما وقوعهم تحت تأثير «أهواء» و«انحرافات» فكرية، لا يجدون مجالاً للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المُسْتَشْرِقِينَ الكَاذِبِينَ.
4- أيها المسلمون عباد الله: إن نصوص القرآن دالة على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسـلم، وقد تتابعت الآيات في تقرير تلك الحقيقة، ومن ذلك بيان أن:
- مهمته هي بيان القرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل
- مهمته إيضاح الحق حين يختلف فيه الناس {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} النحل
- وجوب النزول على حكمه في كل خلاف {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء
- أوتي القرآن والحكمة ليعلِّم الناس أحكام دينهم فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} آل عمران
- له أن يحلل ويحرم بما أوحى الله إليه في القرآن وغيره {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف
- وجوب اتباعه فيما يأمر به وينهى عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر
- وقرن طاعة الرسول بطاعته في آيات كثيرة من القرآن فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} آل عمران
- وحث على الاستجابة لما يدعو، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال
- واعتبر طاعته طاعة لله واتباعه حُبًّا لله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} آل عمران والنساء
- وحذر من مخالفة أمره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بل أشار إلى أن مخالفته كفر: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} النور
- ولم يبح للمؤمنين مطلقا أن يخالفوا حكمه أو أوامره {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} الأحزاب
- واعتبر من علامات النفاق الإعراض عن تحكيم الرسول في مواطن الخلاف: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} النور
- بل جعل من لوازم الإيمان ألاَّ يذهبوا حين يكونون مع رسول الله دُونَ أن يستأذنوا منه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور
5- أيها المسلمون: إن بعض الناس يقول: إن السنة لم تدون إلا بعد زمان طويل من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسـلم!! ولو سكت هؤلاء لكان خيراً لهم؛ فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم، فقولهم مجاف للحقيقة؛ إذ في الأمر تفصيل يحسن الإحاطة به؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد منع من ذلك في بداية الأمر حيث روى أبو سيعد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه) رواه مسلم. ثم أباحه بعد ذلك بدليل قصة أبي شاهٍ اليمني التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه حين التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له شيئاً سمعه في خطبته عام فتح مكة فقال صلى الله عليه وسلم (اكتبوا لأبي شاة) متفق عليه، ويدل على أن الكتابة قد حصلت من زمان النبي صلى الله عليه وسلم حديث عليٍّ رضي الله عنه في الصحيحين حين سئل: هل خصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الوحي؟ فقال: (لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه وما في هذه الصحيفة) ثم ذكر أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة فيها. وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لم يكن أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب) وفي رواية: (استأذن رسول الله في الكتابة فأذن له) وفي السنن: أن عبد الله بن عمرو قال يا رسول الله: أكتب عنك في الرضا والغضب؟ فقال (اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) وأشار بيده إلى فيه.
وليس في ذلك غرابة فإن أموراً أخرى من جنس ذلك قد نهي عنها ثم أبيحت؛ كنهيه صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور ثم ترخيصه فيها، ونهيه عن القراءة في كتب أهل الكتاب ثم إباحته ذلك، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك أولاً خشية اختلاط كلامه بالقرآن حين يكون في الصحف؛ ثم إذن حين أمن ذلك. أو لعله أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه لمن وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتابة، ثم زال الاختلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا التدوين لدرس في الأعصر الأخيرة.
وقد كان الصحابة يكتب بعضهم لبعض؛ ففي مسند الإمام أحمد عن أبي عثمان النَّهدي قال: كنا مع عتبة بن فَرقَد فكتب إليه عمر بأشياء يحدِّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما كتب إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَلبَسُ الحريرَ في الدنيا إلا من ليس له في الآخرة منه شيء، إلا هكذا) وقال بإصبعيه السبابة والوسطى. قال أبو عثمان: فرأيت أنها أزرار الطيالسة، وكذلك التابعون لهم بإحسان؛ فهذا عروة بن الزبير رضي الله عنهما ينقل عن خالته السيدة عائشة رضوان الله عليها فتقول له: يا بنيَّ، بلغني أنك تكتب عنِّي الحديث ثم تعود فتكتبه. فقال لها: أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره. فقالت: هل تسمع في المعنى خلافاً؟ قال: لا. قالت: لا بأس بذلك. وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يرسل إلى أبي بكر بن حزم عامله وقاضيه على المدينة قائلاً: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) وأمره أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمد. ورغب إلى محمد بن مسلم الزهري أن يكتب بقية حديث أهل المدينة. بل أرسل إلى ولاة الأمصار كلها وكبار علمائها يطلب منهم مثل هذا، فقد أخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الآفاق (انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه)
يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: فلما كان عهد عثمان سُمح للصحابة أن يتفرقوا في الأمصار واحتاج الناس إلى الصحابة، وخاصة صغارهم، بعد أن أخذ الكبار يتناقصون يومًا بعد يوم، فاجتهد صغار الصحابة بجمع الحديث من كبارهم فكانوا يأخذونه عنهم. كما كان يرحل بعضهم إلى بعض من أجل طلب الحديث، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، وأحمد والطبراني والبيهقي، واللفظ له، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه، فابتَعتُ بعيراً فشددتُ عليه رَحلي ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أُنيس الأنصاري رضي الله عنه، فأتيته فقلت له: حديثٌ بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يُحشر الناس غُرْلاً بُهْماً) قلنا: وما بُهْمٌ؟ قال: (ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يَسمعه من بعُد كما يَسمعه من قرُب: أنا الدَّيَّان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحدٌ من أهل الجنة عنده مَظلَمة حتى أقتَصَّها منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمَظلَمة حتى أقتَصَّها منه حتى اللطمة) قلنا: كيف وإنما نأتي عُراةً غُرْلاً بُهْماً؟ قال: (بالحسنات والسيئات).
وأخرج البيهقي وابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح أن أبا أيوب الأنصاريَّ رحل إلى عتبة بن عامر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه منه غيره، فلما قدم إلى منزل مَسلَمة بن مَخلَد الأنصاري، وهو أمير مصر، فخرج إليه فعانقه ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر مؤمنًا في الدنيا على كُربته ستره الله يوم القيامة) ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مَسلَمة إلا بعريش مصر. وخلاصة القول أن السنة قد بدأ تدوينها من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استكمل الصحابة رضي الله عنهم ذلك بعد وفاته.