التنوع الثقافي وحقوق الإنسان
ورقة بعنوان
التنوع الثقافي وحقوق الإنسان
أعدها/ عبد الحي يوسف
عضو مجمع الفقه الإسلامي
O
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فإن موضوع حقوق الإنسان هو حديث الساعة؛ وذلك نسبة لكثرة من خاضوا فيه من المسلمين وغيرهم، إضافة لكمية الندوات والمؤتمرات التي عقدت والمواثيق والعهود التي أبرمت من أجل معالجته، ويبقى على المسلم واجب شرعي يتمثل في طرح هذا الموضوع من الوجهة العقدية التشريعية؛ حتى يتسنى له أن يعرض الإسلام في سبقه وبهائه وأصالته؛ ولئلا يكون إمعة يبدئ ويعيد في تسويق أفكار الآخرين مع إلباسها ثوب الشريعة أحياناً، وهو يعلم يقيناً أنها بضاعة غريبة على الإسلام وأهله.
وقد علم المنصفون من الناس أن الإسلام ـ تشريعاً وتاريخاً ـ متجرد في مناداته بحقوق الإنسان، وأنه لا يفرق في ذلك بين جنس وجنس ولا بين لون ولون، وأن المجتمع الإنساني حين ترك شريعة الإسلام واستبدل بها النظم الوضعية ظهرت فيه تلك الندوب والبثور التي شوهت وجه الإنسانية من ممارسات قمعية ومجازر بشرية يندى لها وجه التاريخ.
إن العالم ليعاني في زماننا هذا من محاولة فرض مفاهيم معيَّنة وحضارة واحدة باعتبارها هي المفهوم الأسمى لحقوق الإنسان ينبغي أن يسود العالم أجمع، هذه النظرة الأحادية هي التي تحمل منظمات حقوق الإنسان العالمية ـ والتي هي غربية المنشأ والتمويل ـ على إدانة بعض بلاد العالم الإسلامي إذا طبقت عقوبة الإعدام بحق القاتل السفاح!! لمَ؟ لأنهم يرون في عقوبة الإعدام حرماناً للإنسان من حقه في الحياة، وعنفاً مقنناً تمارسه الدولة المطبقة لهذه العقوبة ضد مواطنيها!! هكذا دون اعتبار لحق أولياء القتيل في أن يقتصوا من القاتل، ودون اعتبار لأمن المجتمع كافة.
وقل مثل ذلك في تطبيق حد الردة مثلاً حيث يرون ذلك من أعظم مظاهر انتهاك حقوق الإنسان!! لمً؟ لأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م ينص في مادته الثامنة عشرة على أن “لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”
وإذا اتجه العالم الغربي إلى إباحة ممارسة الشذوذ الجنسي، واعتبر ذلك من حقوق الإنسان التي ينبغي أن تكفل، بل وساوى بين الشواذ جنسياً وبين الأسرة الطبيعية في الحقوق، فالواجب على العالم الإسلامي أن يسارع إلى إقرار هذه الحقوق؛ ولو أن دولة ثبت عليها محاربة الشواذ ـ بالاعتقال أو المطاردة ـ فويل لها من منظمات حقوق الإنسان إذا خرجت تقاريرها؛ حيث تسارع إلى إدانة تلك الدولة واعتبارها خارقة لتلك الحقوق غير حافظة لها!!
وأما إقامة الحدود الشرعية من قطع وجلد ورجم فما أبعد من يقيمها عن نيل رضا تلك المنظمات!! لمَ؟ لأن المعايير الغربية تقضي بأن هذه العقوبات نوع من التعذيب المهين والحط من كرامة الإنسان!! استناداً إلى المادة الخامسة العشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة للكرامة”
إنه ليمكننا القول بأن موضوع حقوق الإنسان قد غدا سبيلاً مضموناً يستعمله الغرب المنتصر لإخضاع الدول سياسياً واقتصادياً؛ حتى إن الدول التي تدان بانتهاكات لحقوق الإنسان ـ وفق المعايير الغربية ـ تتعرض لأنواع من الحصار ـ اقتصادية وعسكرية وسياسية، تستمد شرعيتها ـ عالمياً ـ من قرارات تصدر عن المؤسسات والهيئات الدولية، التي لم يكن للمسلمين دور في تكوينها، بل كانت أغلب بلاد المسلمين ـ عند تكوين تلك الهيئات ـ خاضعة للاستعمار الغربي على اختلاف أنواعه، ولا بأس في سبيل تحقيق هذه الهيمنة الغربية والاستعلاء الأبيض أن يستعينوا من بعض النخب الوطنية ـ التي ليست هي فوق مستوى الشبهات ـ والتي تنادي ليلاً ونهاراً بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويحاولون أن يصوروا للناس أن حقوق الإنسان ـ على النهج الغربي ـ هي السبيل الأوحد للتخلص من التخلف والتبعية!! وقد علم الناس أن هؤلاء كانوا إلى عهد قريب من سدنة الفكر الشيوعي الذي لا يعترف بالآخر، ولا يعرف سبيلاً للتعامل معه إلا الإقصاء والبتر، وأحياناً السحل والقتل.
إن السياسي الغربي أو الأمريكي الذي لا يكف عن التبجح بحقوق الإنسان، ويدين دول العالم الإسلامي لتخلفها في هذا المضمار، هو نفسه الذي يصيبه البكم والصمم حين يتعلق الأمر بتلك الفضائح المخزية التي مارستها بلاده في بجرام وأبي غريب، وهو الذي يحاول أن يكذب ويكذب ليبرر ما يقوم به الصهاينة في فلسطين من قتل وإحراق وتدمير لا يفرق بين شاب وشيخ ولا بين رجل وامرأة وطفل، وهو نفسه الذي ينافق حين يبيح الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بدعوى حق الإنسان في حرية التعبير، وفي الوقت نفسه يحاكم من يشكك في (الهولوكست)[1]
فروق جوهرية بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوقه في القوانين الوضعية
- هذه الحقوق مصدرها إلهي؛ فليست هي من وضع البشر، ولا ناتجة عن ضغوط خاصة أو صراعات فكرية أو ثورات شعبية، بل أنزلها الله من فوق سبع سماوات قبل أن توجد المنظمات، وقبل أن يعرف الناس معنى لهذه الكلمات، )ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون([2]
- هذه الحقوق ثابتة، وليست عرضة للتغيُّر باختلاف الزمان أو تبدل الأحوال؛ بخلاف ما عليه القانون الوضعي، فما يراه اليوم حقاً قد يكون غداً ليس كذلك
- هذه الحقوق يتساوى الناس في ظلها؛ فلا فرق بين جنس وجنس أو لون ولون، بل هي شاملة للجميع، بخلاف ما هو كائن في النظرة الغربية التي تقوم على الشعور باستعلاء العنصر الأبيض
- هذه الحقوق روعي فيها سيادة الأفراد )من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا([3] وسيادة المجتمعات
- ليس فيها تغليب عنصر على عنصر بل روعي فيها حقوق المرأة والرجل والشاب والطفل والشيخ، والمسلم وغير المسلم؛ كل ذلك من حيث كونه إنساناً
- المسلم يمارس هذه الحقوق تديناً ويتعبد الله من خلالها حين يطبقها على نفسه وعلى الناس
- هذه الحقوق واقعية مرتبطة بحياة الناس، وليست هي نظريات فلسفية تحلق بالناس في عالم الخيال
من حقوق الإنسان في الإسلام
أولاً: حقه في الحياة؛ فلا يجوز الاعتداء على حياته لا من قبل نفسه ولا من آخرين، ولا نجد في القرآن تشديداً في جريمة كما هو التشديد في جريمة القتل )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل( وليس هذا قاصراً على المسلم وحده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم {ألا مَنْ ظلمَ مُعاهداً، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طِيبِ نَفْسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة}[4]
ثانياً: حقه في الكرامة الإنسانية، فهو أكرم مخلوق على الله؛ يقول سبحانه )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا[5]( وقام النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جنازة؛ فلما قيل له: إنها ليهودي!! قال {أليست نفساً}[6]
ثالثاً: حقه في حرية الاعتقاد، فلم يحفظ التاريخ أن المسلمين قد أكرهوا أحداً على الدخول في دينهم أو على الخروج من دينه، والنص القرآن في ذلك )لا إكراه في الدين([7]
رابعاً: حقه في الحرية، سواء في ذلك حرية التنقل والسفر، أو حرية العمل والتكسب، أو حرية الفكر والإبداع، والمبدأ الإسلامي الذي أرساه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه {متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً}
خامساً: حقه في أن يعيش حياة آمنة لا يخضع فيها لتعذيب أو إهانة، ففي الحديث {إن الله ليعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا}[8] وفي حديث أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي {اعلم أبا مسعود} فلم أفهم الصوت من الغضب؛ فلما دنا مني إذا هو رسول الله يقول {اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود} فألقيت السوط من يدي؛ فقال {اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام} فقلت: يا رسول الله، لا أضرب مملوكاً بعده، وقلت: هو حر لوجه الله تعالى. فقال عليه الصلاة والسلام {أما لو لم تفعل للفحتك النار}[9]
سادساً: حقه في أن يحافظ على براءته؛ فلا يُعتدى على الطفل ولا الشيخ الكبير ولا المرأة في حال نشوب الصراعات، وفي ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم لقادة الجيوش {اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا}[10]
سابعاً: حق الإنسانية في عدم إتلاف الزروع وتخريب المباني المدنية أثناء النزاعات؛ ففي وصية أبي بكر رضي الله عنه لأسامة حين بعثه إلى الشام {ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولابعيراً إلا لمأكلة}
ثامناً: حقه في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال سبحانه )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون([11]
تاسعاً: حقه في التعليم والصحة، وفي ذلك النصوص المتكاثرة الآمرة بالعناية بالتعليم في حال الصغر والكبر معاً، والعناية بصحة الفرد وصحة البيئة وتشريع نظام الحجر الصحي وألا يورد ممرض على مصح
عاشراً: حقه في الاختلاف، ففي القرآن الكريم بيان تلك السنة الإلهية )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم([12] وفي السنة أحداث كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينكر على الناس اختلافاتهم إلا إذا خالفت الشرع وباينت الدين
وبدهي أني لم أقصد من وراء ذلك إلا التمثيل لا السرد، وإلا فحقوق الإنسان التي كفلها الإسلام مما كتبت فيه بحوث مستقلة، لا يحصيها العد
خاتمة وتوصيات
إن لزاماً على المسلمين حين يتناولون قضية حقوق الإنسان أن ينتبهوا لجملة أمور:
- أن التغني بحقوق الإنسان صار متكأً للدعوة إلى الخروج على ثوابت الشرع في إباحة الردة والتعدي على المقدسات ونشر الانحلال والتفسخ الأخلاقي
- أن لكل مجتمع خصوصيته؛ فلا يحق للغرب أن يفرض على المسلمين إرثه الثقافي ولا نظرته للأمور، فما يراه الغرب مباحاً أو حراماً ليس بالضرورة أن ينسحب على مجتمعات المسلمين
- أن القوانين التي يسنها الغرب ـ لحماية حقوق الإنسان ـ إنما جاءت ملبية لطموحاته محققة لآماله، ولا تسلم هذه القوانين من ثغرات وأخطاء، بل هذا هو الغالب عليها
- أن المسلمين مأمورون ـ ديناً ـ بالاحتكام إلى شريعة ربهم، وأن هذه الشريعة هي التي تمثل الحق المطلق والعدل الشامل، الذي يستظل بظله المسلم وغير المسلم
- أن من يدعو المسلمين إلى الاحتكام إلى معايير المنظمات الدولية في حقوق الإنسان ـ دون الرجوع إلى الشرع ـ فقد ضل سواء السبيل وخان جماعة المسلمين
- أن يعمل أهل الحل والعقد ـ من العلماء والمفكرين والحكام وسراة الناس ـ على تعبئة الرأي العام الإسلامي لإدراك خطورة ما يراد بهم من طمس الهوية، وتغيير الثوابت، وأن الأمر ليس ضرره قاصراً على الحكومات فقط
- أن يسعى العلماء والمفكرون على أن يتواضعوا على إعلان إسلامي لحقوق الإنسان يشترك في وضعه سائر المذاهب والجماعات وألوان الطيف الإسلامي وتتبناه ـ من بعد ـ المجامع الفقهية والمنظمات الإسلامية الدولية
أن يسعى المسلمون إلى تكوين منظمات إسلامية لحقوق الإنسان ترصد ما يقع من انتهاكات في أنحاء العالم، خاصة ما يكون في بلاد الغرب وأمريكا، والتي تشهر هذا السلاح دائماً في وجه المسلمين
[1] مصطلح يقصد به المحرقة التي يزعم اليهود أن النازي قد أقامها في ألمانيا لهم
[2] سورة المائدة/
[3] سورة المائدة/ 32
[4] رواه أبو داود
[5] سورة الإسراء/
[6] رواه البخاري ومسلم
[7] سورة البقرة/
[8] رواه مسلم
[9] رواه مسلم
[10] رواه مسلم
[11] سورة آل عمران/
[12] سورة هود/