الأوراق العلمية

الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الدعوي

الثوابت والمتغيرات

في مسيرة العمل الإسلامي والدعوي

ورقة مقدمة للملتقى الدعوي المنعقد بقاعة الصداقة بالخرطوم

في الفترة من 6 ـ 8/2/1429 الموافق 13ـ 15/2/2008

أعدها: عبد الحي يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فإن الأمة الإسلامية تعرضت وتتعرض لجملة من الفتن التي أدت إلى تشتتها وتفرقها، ومن هذه الفتن الاختلاف والتشرذم الفكري الذي أدى إلى التفرق في الدين والخروج عن الجادة فانحرفت وضلت وأضلت، كما قال صلى الله عليه وسلم {افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة}([1]) فكان هذا هو السبب الأول في تفرق الأمة وتشرذمها. وإن كان هذا ليس موضوعنا إلاَّ أنه يمثل مدخلاً له، كون السبب لهذا التشرذم الفكري يرجع إلى الخلط بين (المحكم والمتشابه من نصوص الشرع. ولا خروج من هذه الفتنة إلاَّ بتمييز بعضها عن بعض.

وأما الفتنة الثانية وهي وإن كانت دون الأولى في الخطورة، إلاَّ أنها لا تقل شأناً لما يترتب عليها من أضرار قد تهدم كيان أمة الإسلام.

هذه الفتنة تتمثل في التشرذم التنظيمي في كيان أمة الإسلام الذي أدى بدوره إلى تعدد الرايات واختلاف المسميات.

ولن نتحدث عن ضرورة الوحدة بين المسلمين وأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب وعن دور هذه الفتنة في إحداث شرخ فيها.

لكن ما ينبغي أن ننبه عليه هو القول بجواز ومشروعية تعدد الجماعات والكيانات الإسلامية المنطوية تحت لواء ـ فرقة ـ أهل السنة والجماعة، ذلك أن الاجتماع على الخير والدعوة إليه وعلى النهي عن المنكر ومحاربته مندوبة، بل قد تكون واجبة إن لم يرتفع المنكر إلا بجماعة أو لا يقوم الخير والدعوة إلا بجماعة، فما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب كوجوبه. ولست هنا بصدد التأصيل الشرعي لقيام الجماعات الإسلامية إذ ليس هذا موضوعنا

ونقول: إن جميع هذه الرايات والكيانات المتعددة العاملة في الصحوة الإسلامية رايات سنيَّة من حيث الفكرة والمنهج والوجهة والمنطلق.

ومما لا شك فيه أن الصحوة الإسلامية قد جددت وأحيت بعض الأصول الاعتقادية التي كانت موضع إجماع بين سلف هذه الأمة وخلفها، مما لا يجوز أن يُختلف فيها ولا عليها فهي مبنى دين المسلمين ولها ينتصرون.

إلاَّ أن كثيراً من هذه الكيانات لها اختياراتها الفقهية والاجتهادات التي ترجحها على غيرها، والتي ترى أنها الأقرب إلى الصواب وإلى روح الشرع ومقصود الشارع، فتراها تنتصر لهذا الرأي وتحشد الأدلة التي تؤيده ـ وحُقَّ لها ذلك ـ وقد تنتقد من خالفها إن لم تقدح فيه، وليس ثمة إشكال كبير في ذلك طالما اقتصر الأمر على هذا الخلاف ولزوم درجته وانضبطت ردود الأفعال فيه، ذلك أن الخلاف هنا ما زال في دائرة الظنيات لا القطعيات، والفروع لا الأصول، وفي إطار البحث عن الحق وإرضاء لله جل جلاله، وهو كما يسميه كثير من الفقهاء باختلاف التنوع والتكامل لا اختلاف التنازع والتضاد، وفي إطار هذه الدائرة اختلفت الملائكة([2]) والرسل([3]) والصحابة فضلاً عن غيرهم، إذ الاختلاف سنة الله في خلقه([4]) وكما ذكر ابن تيمية رحمه الله أن تسعة أعشار الخلاف من هذا القسم، ويقول أيضا: وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة. فهذا النوع من الخلاف هو موضع التغافر والتناصح وهو الذي لا يُعقد عليه ولاء ولا براء.

غير أن البعض قد تشتبه عليه النصوص ودرجتها فيؤدي هذا الاشتباه إلى الخلط، وقد يكون الخلط ناتجاً عن غلو أو تفريط، فيغلو البعض فيرفع الظنيات إلى درجة القطعيات، كما أن المفرِّط يهبط بالقطعيات إلى درجة الظنيات، ومن هنا يحصل الخلط الذي يؤدي إلى إشعال الفتن وفتح أبواب الشر، والرشد كل الرشد في تمييز القطعيات من الظنيات، ومن هنا كان المنطلق الذي ننطلق فيه في بيان الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي الراشد.

فالثوابت هي في حقيقتها الأمور القطعية الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أقام الله بها الحجة بيِّنة في كتابه أو على لسان نبيه، ولا مجال فيها لزيادة أو تطوير أو اجتهاد، كما لا يجوز فيها الخلاف لمن علمها.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.

وكما أن هذه الثوابت بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء فهي القاسم المشترك بين هذه الرايات، ليس لأحد الخروج عنها أو عليها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض وأعني بهم أهل السنة والجماعة.

وأما مجال هذه الثوابت فهو في كليات الشريعة وأغلب مسائل الاعتقاد، وأصول الفرائض، وأصول المحرمات، وأصول الأخلاق؛ فالإيمان والعقائد، والعبادات والأخلاق لا مجال للزيادة فيها أو الاجتهاد وإنما الواجب الإيمان بها وبمقتضاها بتسليم مطلق، والزيادة فيها بدعة مردودة على صاحبها.

وأما المتغيرات فيقصد بها موارد الاجتهاد، أو ما لم يقم عليه دليل قطعي من نص صحيح أو إجماع صريح، وهي ما يُعبر عنه الفقهاء بالظنيات.

ويدخل في هذه المتغيرات أقوال الفقهاء المختلفة التي لا يجب إتباعها، ولا يَكفر أو يُكفر أو يَفسق أو يُفسق من خالفها، كما لا يزعم قائلوها أن هذه الأقوال دِين بل يقولون هي اجتهاد من شاء قَبِله ومن شاء رده.

ومجال هذه المتغيرات ـ الظنية ـ المعاملات إذا هي باب عظيم من أبواب الاجتهاد، وذلك لاتساع مجالاتها وتنوعها وتطورها ومستجداتها المستمرة والسريعة لا تنحصر، وهو ما يحتاج معه إلى اجتهاد دائم وجديد ومستمر، والنصوص الشرعية في هذا المجال متناهية بقوله تعالى )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً( [ المائدة :3 ] بينما الوقائع والأحداث غير متناهية، ومحال أن يُقابل ما لا يتناهى بما يتناهى، كما ذكر ذلك ابن رشد في مقدمة بداية المجتهد. ولهذا كانت نصوص الشرع في باب المعاملات نصوصاً عامة تتيح للمجتهدين إعمال فكرهم واجتهاداتهم في إطارها، بما يحقق مقصود الشارع في ضوء تلك النصوص والأطر العامة، المبينة بما يصح وما لا يصح، والشريعة بهذا تتصف بالثبات والمرونة، فأصولها في هذا الباب ثابتة في حين اجتهاداتها في الفروع مرنة.

وسنقدم في هذا البحث أبرز الثوابت والمتغيرات التي ينبغي للعاملين في مجال العمل الدعوي ملاحظتها ومراعاتها ولا ينبغي لهم تجاوزها باعتبارها تمثل الإطار المرجعي للعمل والعاملين في هذا المجال ، وما إيرادي لها إلاَّ نوع من التذكير ليس إلاَّ.

أولاً: الثوابت

1ـ وحدة الأصول العقدية

2ـ وحدة مصادر التلقي والمرجعية الشرعية، أي الاتفاق إجمالاً على مصادر الأحكام من قرآن وسنة وإجماع وقياس، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من الآيات القرآنية ما هو قطعي في معانيه ودلالاته ومنها ما هو ظني، ومن السنة ما هو قطعي دلالة وثبوتاً ومنها ما هو ظني، وكذلك الإجماع([5]) منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، فالقطعي مما سبق ما قُطِع فيه بعدم وجود المخالف، والظني ما لم يُقطع فيه بوجود المخالف. فليعلم أن القطعي من الثوابت التي يجب لزومها ويحرم الخروج عنها، والظني مما يتسع فيه الأمر للخلاف وهو في دائرة المتغيرات الاجتهادية التي تراعى فيها المصالح وتحقيقها، والمفاسد ودفعها أو تقليلها.

3ـ حاكمية الشريعة (سيادة الشرع وسلطة الأمة) قال تعالى )فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً(  [النساء :65] وقال تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( [النساء:59] وقال تعالى )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً( [الأحزاب:36] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [الحجرات:1] ونعني بذلك أن المرجعية العليا والحجة القاطعة والسيادة المطلقة في التشريع إنما هي للشرع والشارع وليست للأمة، وأن السلطة في كيفية تطبيق وتقنين الشريعة تكون للأمة ممثلة بأهل الحل والعقد فيها، فهذه السلطة مقيدة بسيادة الشرع فليس للأمة أن تسن أو تشرع قوانين تخالف ما نص عليه الشارع، فإن فعلت ذلك كان هذا الفعل مرفوضاً غير مقبول، كما لو اتفقت على تولية المرأة منصب الولاية العامة، أو تولية كافر أو مرتد لهذا المنصب. ومن هنا تلقت الأمة أحكام الشارع بتسليم مطلق، ولم تعارضها بأقوال الأئمة والفقهاء، بل عارضت أقوالهم بها، ونصوص الفقهاء في ذلك كثيرة. (كل يؤخذ من قوله ويرد إلاَّ قول صاحب هذا القبر) (وإذا صح الحديث فهو مذهبي)

وتحكيم الشريعة وإقامة دولة الإسلام هو مقصود الشارع من استخلاف الإنسان، كما أنه نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهو هدف كل العاملين في الحقل الدعوي بالضرورة.

4ـ أن الشرع هو المعصوم الوحيد؛ وأما الاجتهادات البشرية فهي عرضة للخطأ والغلط والقصور، ولذا وجدنا من سلف الأمة من قال (إذا خالف قولي قول النبي صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط).

ويقول الإمام مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد إلاَّ صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.

5ـ لزوم منهج أهل السنة والجماعة:

 إن لزوم هذا المنهج هو ما يجعل العاملين في المجال الدعوي الإسلامي ضمن إطار أهل السنة، فكما لا يخفى على أحد أن لفظ ومصطلح الجماعة الوارد في نصوص الشرع يراد بها أحد أمرين:

أ ـ أنها بمعنى المنهج. ودليل ذلك قوله r {وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. وهي الجماعة}([6]) وفُسِّرت في الرواية {قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي}([7])

وهي بهذا المعنى لا يحدها زمان ولا مكان، إذ أن أهل السنة والجماعة هم كل من أقر إجمالاً بالإسلام عقيدة وشريعة وتبرأ إجمالاً من كل ما يخالفه من أديان محرفة ومذاهب وضعية، وأقر إجمالاً بالسنة وتبرأ إجمالاً من كل ما يخالفها من فِرق الضلالة. وبهذا المعنى لا يحد أهل السنة مكان ولا زمان، كونها جملة من الاعتقادات تنطبق على كل من اعتنقها. فمخالفة جماعة المسلمين ـ أهل السنة والجماعة ـ انحراف وضلال وابتداع في الدين ـ وقد نُهينا عن ذلك كله ـ لأن الجماعة هي الحق كما جاء في بعض الروايات، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {الجماعة أن تكون على الحق وإن كنت وحدك}.

ب ـ أنها بمعنى الكيان؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم {من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه}([8]) وهي بهذا المعنى تطلق على الأمة كلها مجتمعة على إمامها الأعظم ـ إن وجد ـ .

6ـ الأصل في فهم نصوص الشرع أن يكون على فهم السلف. وقد جاء في بعض الروايات عنه صلى الله عليه وسلم {وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة} قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي}([9]) فهذه الرواية تبين أن الفرقة الناجية ـ وهي التي على الحق كما في روايات أخرى ـ هي التي تسير وفق منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، الذي كان عصرهم خير القرون، ثم كان عصر من بعدهم كذلك لسيرهم سيرة من قبلهم. وعليه فأقرب فهم لنصوص الشرع هي أفهام هؤلاء السلف، التي جاءت نصوص الوحي بلسانهم، ومخاطبة إياهم، فعند تعارض المفاهيم والمعاني المحتملة للنص الشرعي وعند الفتن واختلاط الأمور فإن الأقرب صواباً والأكثر دقة وموافقة لمقصود الشارع هو ما فهمه هؤلاء السلف، ولذلك كان قولهم وفهمهم حجة ورافعاً للخلاف. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم فهم بعض صحابته لهذه النصوص حجة ورافعاً للخلاف، بل صرح بضرورة الاقتداء بهم في أفعالهم وأفهامهم لتلك النصوص فقال {فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}([10]) وقد حذر سبحانه وتعالى من مخالفة فهم السلف لنصوص الوحي، وبين أن هذه المخالفة نوع من المشاقة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال )وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً( [النساء:115] ولهذا كانت أقوال السلف في الدين والعلم والعمل خير من أقوال المتأخرين.

7 ـ مشروعية الاجتماع على الخير والتعاقد عليه، والنصوص الواردة في ذلك كثيرة منها )كنتم خير أمة أخرجت للناس( )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير( )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( غير أن هذا الاجتماع مشروط بجملة من الشروط التي من شأنها أن تضبط مساره، وتحقق الغاية من قيامة، ومنها:

أ ـ أن لا يكون اجتماعاً على أصل كلي بدعي يخالف أصول أهل السنة والجماعة.

ب ـ أن لا يقصد به منازعة أهل الحق أو مواجهة الجماعات الإسلامية العاملة في الميدان.

ج ـ ألاَّ يُعقد على مثل هذه التجمعات ولاء يؤثر على الولاء العام لجماعة المسلمين. ولا مانع بالضرورة من وجود ولاء خاص فيما بين المتعاقدين شريطة ما ذكرنا.

د ـ أن لا تكون هذه التجمعات على حساب الأخوة العامة للمسلمين.

8 ـ قصر وصف جماعة المسلمين ـ أو مصطلح أهل السنة والجماعة ـ على تجمع دعوي بعينه غلو، يُنكر على مدعيه.

9 ـ مصادرة شرعية التجمعات الدعوية لجماعة ما تحت أي مبرر تفريط منكر.

10ـ التعدد المقبول تعدد التنوع والتخصص المؤدي إلى التكامل، لا تعدد التضاد والتنازع. فالأول مطلوب والثاني مرفوض، وإذا ما نظرنا إلى بعض حِكم الله تعالى من إرادته تعدد الرايات العاملة في مجال العمل الإسلامي فإننا سنجد أن هذا التعدد والتنوع قد ساهم بفضل الله وبرحمته في قيام هذه الجماعات بكثير من الواجبات الكفائية المُضاعة، والتي لولا وجود هذا التعدد والتنوع لما أُقِيمت هذه الواجبات، إذا أن الله سبحانه وتعالى قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق وهو ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم {اعملوا فكل ميسر لما خلق له}([11])

مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التعدد والتنوع بهذا المفهوم ـ التكامل ـ يهدف على المدى البعيد إلى توحيد الأمة والراية وخطوة في الطريق إلى جماعة المسلمين بمعناها الشامل، المنهج والكيان والدعوة والدولة.

11ـ الولاء والبراء يكون على الإسلام، لا على التجمعات الدعوية.

12ـ التوحد في القضايا العامة والمصيرية ضد أعداء الإسلام والمسلمين.

والتفريق بين مرحلة القوة والتمكين ومرحلة الضعف والمدافعة، وإذا كان سيدنا علي رضي الله عنه قد قبل من الخوارج مشاركتهم له في جيشه وحربهم معه ـ وهم من هم ـ فمن باب أولى أن تتوحد الجماعات وهي المتفقة في الأصول في قضايا الأمة المصيرية.

13ـ عدم القدح في الأشخاص والجماعات العاملة للإسلام.

14ـ محل الاجتهاد كل ما لم يرد فيه دليل قاطع أو نص ظاهر الرجحان.

15ـ لا يأثم المجتهد ولا يُنكر عليه وإن أخطأ. فأما كونه لا إثم عليه فدليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم {إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر}([12]) إذ جعل للمجتهد المخطئ أجراً وهذا ينفي تأثيمه إذ لو كان آثما لما استحق الأجر. وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (لا إثم على المجتهد وإن أخطأ).

 وأما كونه لا يُنكر عليه فلأن الله تعالى ورسوله لم يُنكِرا عليه، فمن باب أولى أن لا ينكر عليه البشر، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الإنكار على المجتهد المخطئ سيؤدي إلى إحجام المجتهدين عن الاجتهاد، خشية الوقوع في الخطاء، وما ينتج عنه من تخطئة وتشنيع، وهذا التشنيع أو الإحجام سيؤدي إلى إغلاق باب الاجتهاد، وهو ما يخالف مقصود الشارع فكثير من المسائل إنما ذكرها الله تعالى بعموميات داعياً المجتهدين إلى إعمال اجتهاداتهم فيها.

16 ـ لا إنكار في مسائل الخلاف:

 وهذه قاعدة عظيمة نص عليها كثير من الفقهاء منهم الإمام ابن تيمية في كتابه الحسبة في الإسلام. غير أن هذه القاعدة لا تعني بالضرورة عدم بيان ضعف القول المرجوح والانتصار للأرجح، كما لا تعني عدم تعليم الناس وإرشادهم إلى الصواب، فغاية ما تدل عليه هو عدم الإنكار، والمقصود بالإنكار هنا الخلاف المؤدي إلى نزاع وفرقة. أمَّا مجرد البيان الذي لا يؤدي إلى مفسدة فلا مانع منه بل هو مطلوب شرعاً. كما لا يجوز التشبث بفعل أو قول ظهر الدليل على خلافه.

ومن هنا فالواجب إحياء السنن وتعليمها وممارستها وإفتاء الناس بها، ولا يجوز ترك ذلك بحجة أنها من الخلافيات، ولا إنكار في مسائل الخلاف.

17 ـ درجة الإنكار يجب أن تكون على قدر المخالفة، ومن أهل العلم المعتبرين:

        كما أن الإنكار والنقد ينبغي أن يكون متوجهاً للفكرة والرأي لا لقائليها ومتبنيها، ذلك أن الشارع قد أوجب صون الشريعة عما ليس منها، كما حفظ للعلماء والمجتهدين مقامهم ومكانتهم، وبتعرضنا للفكرة لا لقائلها نجمع بين الأمرين، إذ نكون بذلك قد حافظنا على  الشريعة وحملتها فلا يدخل فيها ما ليس منها، ولم نتعرض لحملتها بأشخاصهم بنقد أو نحوه.

كانت هذه أبرز الثوابت التي لا يختلف عليها مسلمان ،وأما المتغيرات فهي أكثر من أن تحصى، وقد سبق وأن ذكرنا قول ابن تيمية في ذلك، وإنما نشير إليها إشارة، فمن المتغيرات:

ثانياً: المتغيرات

 

1ـ حصر الخلاف في دائرة الفروع. وهذا هو الخلاف السائغ، هو الذي يجري فيه التغافر والتناصح.

2ـ الوسائل لها حكم المقاصد من حيث المشروعية.

3ـ تفاوت الاجتهادات في الوسائل ما دامت في دائرة المباح وليس فيها من محذور شرعي.

4ـ تفاوت الاجتهادات في ترتيب الأولويات يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولكل ما يناسبه.

فهذه الأمور من جملة المتغيرات ومن أبرزها، وفي الغالب ما يجري الخلاف في إطارها. فالوسائل باتفاق الفقهاء، وكما سبق وأن بينا أنه ما لا دليل قاطع عليه فإنه يجوز فيه الاجتهاد، وبالتالي الخلاف. غير أنه ينبغي أن يكون مضبوطاً بما ذكرنا في الثوابت. وهذا بخلاف الأهداف والغايات، فما هي في الحقيقة إلاَّ صياغة عصرية للثوابت، وبالتالي فلا يجوز الخروج عليها أو عنها.

ومن المناسب هنا أن نتعرض لقضية معاصرة كثيراً ما اختلف الناس حولها، لما لها من ارتباط بالثوابت والمتغيرات. هذه القضية هي قضية الديمقراطية

والتي إذا ما عرضناها على ميزان الثوابت والمتغيرات يمكن لنا أن نخرج برأي مناسب حولها.

من المعروف أن هذه القضية موضوعها حادث ومصطلحها دخيل على أمة الإسلام، فهي غربية المولد والنشأة علمانية المضمون والجوهر. وقولي هذا ليس حكماً مسبقاً وإنما هو مقدمة واقعية وحقيقية.

فالديمقراطية تعني عند مؤسسيها وواضعيها ودعاتها تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، كما أنها تعني حق الشعب في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم. وإذا ما عرضنا الديمقراطية بهذه المضامين على ميزان الثوابت والمتغيرات لنرى هل هي متعلقة بالثوابت أم بالمتغيرات؟

فسنجد أن لها علاقة بهما معاً، فهي من ناحية السيادة تتعلق بالثوابت ومن حيث أسلوب الممارسة تتعلق بالمتغيرات.

فقول دعاتها: أنها حكم الشعب نفسه بنفسه. هذا المضمون يتعارض معارضة كلية مع جميع ثوابت الحاكمية في الشريعة الإسلامية.

والديمقراطية بهذا المعنى لا يقول بها أي من العاملين في مجال العمل الإسلامي، ومن تبنى الديمقراطية بهذا المفهوم فهو واقع في أكبر الكبائر، فهي بهذا المعنى كفر بالله وشرك أكبر. ونخشى عليه إن لم يرجع عن قوله هذا. أما من يقول بأنها مفروضة عليه فرضاً فهذا شيء أخر، وهو على خطر عظيم.

وبحسب علمي فإن الإسلاميين الذين يتكلمون عن الديمقراطية ويدعون إليها لا يقصدون بها هذا المعنى وإنما يقصدون المعاني الأخرى التي سبق وأن أوردناها من حق الشعب في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم، للحد من طغيان الحكام ودكتاتوريتهم، وإذا ما نظرنا إلى الديمقراطية بهذا المعنى، فهل التعامل بها جائز أم محرم؟

من البدهي أولاً أن نقول: أن الديمقراطية بهذا المفهوم من المتغيرات لا من الثوابت فهو لا يمسها، بخلاف المضمون الأول فهو يمس السيادة، بينما هي بهذه المفاهيم تمثل آلية عمل ليس إلاَّ. وعلى هذا الأساس ـ كونها هنا من المتغيرات لا من الثوابت ـ سيكون حديثنا وبحثنا.

فالديمقراطية بهذه المفاهيم ومن هذا الشق لها أصل في شرعنا، بل هي من الأسس والقواعد الكلية في السياسة الشرعية الإسلامية، فعموم نصوص الشرع تدعوا إلي العدل بين الناس في الحكم، وإلى تولية الناس أمرهم من يرضون دينه، ولهم عزله إن ارتكب ما يوجب عزله، ولهم الحسبة على منكراته إن ظهرت بالأساليب الشرعية، وقبل ذلك لهم مناصحته لحديث (الدين النصيحة).

ولا يوجد مانع شرعي يمنع من ممارستها والدعوة إليها ـ بهذه المضامين ـ وعلى فرض أن النصوص الشرعية غير واضحة الدلالة على جواز ممارستها، فسنجد أن من المنصوص عليه في كتب القواعد الفقهية أن الأصل في الأشياء الإباحة. وأما احتجاج البعض بكونها غربية المنشأ والمولد، فليس دليلاً على حرمتها ومنعها، لا من حيث المصطلح ولا من حيث الممارسة، فلا مشاحة في الاصطلاح فالعبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

ومن حيث الممارسة لا يمنع ممارسة غير المسلمين لها من أن يمارسها المسلمون، فقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الأعراف السائدة التي كان يمارسها المجتمع الجاهلي، ووظف تلك الأعراف في خدمة الدعوة الإسلامية، وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه، ومن ذلك دخولهما في جوار المشركين، فقد دخل صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، فيما دخل أبو بكر في جوار ابن الدغنة، كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من خبرة الفرس العسكرية ووظفها في حماية المسلمين في غزوة الخندق، والمسلم المعاصر اليوم في أشد الحاجة إلى الاستفادة من كل ما من شأنه أن يحمي المسلمين، ويمكن لهم في الأرض لتحكيم شرع الله تعالى وإعلاء كلمته. ومنها الديمقراطية إذ هي اليوم ـ لو صدق الحكام والدعاة إليها ـ هي أقصر وأفضل وأسهل وأسرع الطرق لإيصال القيادة الإسلامية إلى مصدر القرار، والواقع يشهد بذلك في البلدان التي مارستها بمصداقية، كما جرى في الجزائر وفلسطين وتركيا وغيرها من الدول.

غير أنه مما ينبغي أن ننبه عليه وبقوة:

1ـ  أن الديمقراطية إذا ما قُصِد منها إلغاء حاكمية الشريعة وسيادة الشعب بحكمه نفسه بنفسه، وجب رفضها ومحاربتها.

2ـ وكذلك ينبغي أن نعلم أن الديمقراطية يجب أن تكون وأن تظل وسيلة لا غاية، وأنها ليست الحل الدائم والأفضل في كل الأوقات والأماكن، وإنما تختلف الفتوى فيها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، وإن كانت اليوم مناسبة في مكان فإنها قد تكون لا يكون مناسبة في مكان أخر، وإن كانت اليوم هنا مناسبة فقد لا تكون كذلك غداً، بل قد تكون وبالاً وخطرا، وأن قبول بعض الإسلاميين لها اليوم بهذا المصطلح ما هو إلاَّ نوع من المجاراة والمداراة؛ لتحقيق أفضل النتائج المرجوة منها، كما أنها من ناحية أخرى نوع من الضعف الناتج عن التبعية للدول القوية، وعليه فإنه إذا  زال الضعف نتج عنه انقطاع عن التبعية، أو لم تحقق المشاركة ما يراد منها وجب نبذها وتعرية سوءتها وإظهار حقيقتها التي بينَّتها سابقاً، ومع تجويز المشاركة فلا بد من إشهار وإظهار المصطلحات الشرعية في هذا الجانب كالشورى وأهل الحل والعقد ونحوها، وإن كنَّا اليوم قادرين على إشهار المصطلحات الشرعية فهي أولى وأحق من هذه المصطلحات.

3ـ أن الخلاف فيها ـ بالمعنى الثاني ـ يعتبر خلافاً في الفروع فهو من الخلاف السائغ، يتناصح فيه المتناصحون، وفيه يجري اجتهاد المجتهدين، بحسب الزمان والمكان والأحوال والمصالح والمفاسد. ويقدر ذلك كله علماء وفقهاء كل بلد على حدة.  والله أعلم

[1] ـ رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة 1/404

[2] ـ قال تعالى )مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ( ص:69

[3] ـ قال تعالى )وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ{78} فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ( الأنبياء : 78 ـ 79

[4] ـ في الألسن والألوان والعقول والأفهام والمدارك كما هي سنته في الجبال وقطع الأرض.

[5] ) والإجماع ليس أصلاً مستقلاً بذاته، بل هو أصل تبعي يرجع إلى الكتاب أو السنة، بل هو مستند عليهما كاشف للدليل منهما، رافع له من درجة الظن إلى درجة القطع.

[6] ـ سبقه تخريجه

[7] ـ حسنه الألباني

[8] ـ صحيح مسلم

[9] ـ حسنه الألباني

[10] ـ كتب السنن وصححه الألباني

[11] ـ صحيح البخاري .

[12] ـ صحيح البخاري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى