الدولة الإسلامية بين المثال والواقع
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم الدولة الإسلامية بين المثالية النظرية والواقع
ورقة مقدمة للندوة العلمية المتخصصة في قضايا الدعوة الإسلامية
المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية
5 ـ 7/ذي القعدة/ 1431
13ـ 15/ أكتوبر/ 2010
كتبها/ عبد الحي يوسف
جامعة الخرطوم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن الصحوة الإسلامية المباركة التي عمت العالم الإسلامي كان من ثمراتها الطيبة استقرار مفهوم أن الإسلام دين ودولة عند أكثر الناس، بعدما كان ذلك قولاً إداً يستنكره كثير من المتدينين فضلاً عن غيرهم!! ومن تأمل في كتابات الإسلاميين في القرن الماضي وينظر في مقدار الجهد الذي بذلوه يعلم يقيناً أن خيراً عميماً قد حصل بتغير المفهوم السائد للدين عند كثيرين؛ فبعدما كان الدين عندهم شعائر تعبدية، وأذكاراً فردية، وأخلاقاً زكية وحسب، صار الدين ـ بفضل الله ثم بجهود أولئك الخيرين ـ جهاداً ودعوة وقيادة وحكماً وتعليماً وتربية ـ إضافة إلى كونه عقيدة وعبادة وأخلاقاً وتزكية، ومن نظر إلى إنكار الناس ـ في الحاضر ـ إذا سمعوا من يردد مقولات من جنس: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ـ دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ـ الدين لله والوطن للجميع ـ في مقابل إنكار الناس ـ في الماضي ـ إذا سمعوا من يقول بأن الإسلام دين ودولة وعبادة وقيادة واقتصاد وسياسة يعلم أن الصحوة الإسلامية المباركة قد آتت بفضل الله أكلها وأينعت ثمرتها؛ فلله الحمد رب العالمين.
وفي تصور الناس للدولة الإسلامية نوع غموض وضبابية؛ حتى إن العلمانيين يشوشون على الدعاة بشبهات خلاصتها: أي إسلام تريدون؟ إسلام الخلافة الراشدة أم الملك العضوض الذي بدأ مع بني أمية؟ أتريدون إسلام القطع والصلب أم إسلام المودة والرحمة؟ أتريدون الإسلام السني أم الشيعي؟ تريدون نموذج النميري أم طالبان؟ وهكذا يطرحون هذه الأسئلة التي يريدون من ورائها التشويش على مفاهيم العامة وقطع آمالهم في استعادة حكم إسلامي راشد، تؤدى فيه الحقوق وترعى الأمانات والعهود، والإجابة الواضحة التي ينبغي أن نستحضرها في مواجهة تلك الأسئلة أننا نريد الإسلام العفو الصفو المستقى من ينبوعه الأول، ولا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كل راد ومردود عليه سواه عليه الصلاة والسلام، ولسنا مدينين لأحد بأن نكرر تجربته ونعتقد أنها المثال الأوحد، بل إننا نعلم أن الزمان غير الزمان، والمكان غير المكان، والرجال غير الرجال، والتحديات مختلفة والابتلاءات متباينة، وأن في ديننا ـ والحمد لله ـ فسحة؛ ففيه الثابت والمتغير وفيه العفو؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها؛ وحد حدوداً فلا تنتهكوها، وسكت عن أمور رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها} وفي ديننا ما يسوغ فيه الخلاف وما لا يحتمله، فمن أدرك هذه الحقائق سهل عليه أن يتعامل مع كل حالة بما تستحق وأن ينزل كل نازلة منزلتها من غير غلو ولا شطط.
وحين نتحدث عن الدولة الإسلامية في الماضي أو الحاضر؛ فإننا لا نتحدث عن نظرية خيالية، ولا عن المدينة الفاضلة التي كانت في أذهان بعض الفلاسفة، بل نتحدث عن تجربة بشرية واقعية كانت فيما مضى مثلاً للعدل والرحمة والبر والإحسان، ويرجى لها في الحاضر أن تقترب من ذلك المثل الأعلى وإن لم تبلغه؛ وعليه فإنني لا أتحدث عن نظرية مثالية بل عن قيم وأخلاق ونماذج كانت واقعاً في دنيا الناس بالأمس ويرجى لها أن تكون كذلك اليوم بعون الله ثم بجهود المخلصين، ((وما ذلك على الله بعزيز)) وهو سبحانه المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
الدولة الإسلامية (المثال)
هي دولة النبي عليه الصلاة والسلام ومن بعده دولة الراشدين رضي الله عنهم والتي بدأت من خلافة أبي بكر في السنة الثالثة عشرة من الهجرة وانتهت بمقتل علي رضي الله عنه سنة أربعين من الهجرة، والتي قامت على أسس واضحة كان من معالمها:
1ـ الاستضاءة بنور الوحي فيما يشكل على الناس؛ وفيما يحصل فيه الخلاف؛ عملاً بقوله سبحانه ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)) وقوله سبحانه ((وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)) فكم من نازلة حدثت فنزل الوحي بحكمها والقول الفصل فيها، وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا المسارعة إلى تنفيذ حكم الله أياً كان، ومن باب المثال نذكر قصة اللعان وتوبة أبي لبابة بن عبد المنذر وقسمة الأنفال وبيان حال المنافقين في غزوة تبوك والأحزاب والزواج بامرأة الابن بالتبني، ثم قتال المرتدين ومانعي الزكاة وقسمة الأراضي المفتوحة ومحاسبة الولاة والعمال. فلم يكن الأمر راجعاً لأهواء الحكام وأمزجتهم، ولا للنظر في المصالح المتوهمة مع إهمال لحدود الله وتخطي لتعاليم الشريعة
2ـ أخذ الناس بالتدرج في التشريع وعدم حملهم على الأمر جملة؛ وذلك ظاهر في تحريم الخمر والربا وحد الزنا وفرض الصلاة والصيام والجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن سلول حين أراد قتل أبيه بعدما ظهر نفاقه، وإعفاؤه عليه الصلاة والسلام ثقيفاً من أن يهدموا أصنامهم بأيديهم، وما صنعه عمر رضي الله عنه مع نصارى بني تغلب حين أنفوا من دفع الجزية ورضوا بدفعها على ألا تسمى بذلك الاسم
3ـ قبول الناس على علاتهم واختلاف درجاتهم وأخذهم بالرفق دون الشدة؛ عملاً بقوله تعالى ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)) فنجد في مجتمع المؤمنين أمثال الصديق أبي بكر رضي الله عنه الذي يحافظ على الفرائض ويتزود من النوافل ويضرب في كل باب من أبواب الخير بسهم وافر، وفي الوقت نفسه يجتنب المحرمات والمكروهات والشبهات ويجاهد في الله حق جهاده، وينفق ماله كله في سبيل الله، وفي المجتمع نفسه من يشرب الخمر أو يقع في الزنا أو يغل من المغنم ومن يجهل أحكاماً من الدين واضحة، ومن يقول: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، ومن يعلن على الملأ أنه سيلتزم بالفرائض ولا يزيد عليها ولا ينقص
4ـ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فلا مجاملة لأحد من الناس؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم للعابد الزاهد أبي ذر رضي الله عنه حين طلب منه أن يوليه {إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها} ويعزل أبو بكر أبا عبيدة من قيادة الجيش ويستعمل مكانه خالد بن الوليد ويكتب إليه {أما بعد: فإني قد عزلتك ووليت خالداً، وظني أنك خير منه، لكن له علماً بالحرب ليس عندك} ثم حين يلي الخلافة عمر يكون أول قرار له عزل خالد ومشاطرته ماله ((ولكل وجهة هو موليها)) ورفضه رضي الله عنه أن يولي الأمر من بعده لولده عبد الله بن عمر وقوله {حسب آل الخطاب أن يحاسب منهم واحد}
5ـ إنزال الناس منازلهم والتنويه بأهل السابقة وذوي الفضل وبيان ما هم عليه من سداد واستقامة حتى يحصل الاقتداء بهم والتأسي بحالهم؛ فنجد الثناء العاطر على السابقين الأولين على لسان القائد الحاكم صلى الله عليه وسلم {ما نفعني مال مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا} {إن يكن في أمتي محدثون فإن منهم عمر} {اللهم إني رضيت عن عثمان فارض عنه، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم} {أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي} {إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح} {إن لكل نبي حوارياً، وحواريي الزبير بن العوام} ويقول عن سعد {هذا خال فليرني امرؤ من خاله}
6ـ مشاركة الجميع في بناء الدولة ـ رجالاً ونساء وشيباً وشبابا ـ فنجد إسهام الشيوخ من أمثال أبي بكر وأسيد بن حضير وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث، وإسهام الشباب الصغار كعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعتاب بن أسيد، والنساء كنسيبة بنت كعب المازنية وأم حرام بنت ملحان وأم سليم، ونجد من جاهد بسيفه ـ كحمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن أبي عامر وسلمة بن الأكوع، ومن جاهد بلسانه كحسان بن ثابت وثابت بن قيس بن شماس والمغيرة بن شعبة، ومن برز بجهاده في الاستخبارات كحذيفة بن اليمان وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ومن برز في جهاده بماله كعثمان وطلحة بن عبيد الله، ومن جمع المحاسن كلها كالصديق أبي بكر رضي الله عن الجميع
7ـ العدل التام مع القريب والبعيد والصديق الحاني والعدو الشانئ؛ {فوالذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} وحين يعرض عمر أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو بعدما أسر يوم بدر يكون الجواب النبوي {لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا} وحين يأتي رجل يأخذ عطاءه زمان عمر ويتبين من ملامحه أنه كان مرتداً وأنه قاتل أخيه زيد بن الخطاب، يقول له عمر: إني لا أحبك! يقول الرجل: هل تمنعني حقي؟ يقول عمر: لا. يقول الرجل: لا حاجة لي حبك إنما يأسى على الحب النساء!!! ولا يملك الفاروق إلا أن يوفيه حقه غير منقوص.
8ـ ممارسة السياسة الشرعية في ترجيح المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والعمل بالمداراة مع الأعداء تحييداً لهم ودفعاً لشرهم؛ وذلك في قصة غزوة الأحزاب وعرض النبي صلى الله عليه وسلم ثلث ثمار المدينة على عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في مقابل رجوعهم بمن معهم
9ـ الدعوة إلى الله ونشر الدين هي الغاية الأولى والهدف الأساس من قيام الدولة؛ ومن أجل ذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة إلى الآفاق وسير الجيوش إلى البلاد، وكاتب الملوك والطواغيت يدعوهم بدعوة الإسلام ((يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) ومن بعده قام الراشدون بالأمر خير قيام حتى بلغت جيوش الإسلام أبواب الصين شرقاً وحدود فرنسا غرباً؛ إنفاذاً لوعد الله تعالى ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا)) قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية -وهو المقوقس -وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند موته، عليه الصلاة والسلام وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة، رضي الله عنه، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [عليهم السلام] على مثله، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية[1]، امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن؛ ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها” فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا” . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: “كلهم من قريش”.[2]
10ـ الحرص على الأخلاق السامية في إعمال الشورى؛ فما كان أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما {لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما} وكان يستشير من كان أهلاً للشورى في المسائل العسكرية والأمور السياسية؛ وكذلك الراشدون من بعده حتى إن عمر منع بعض الصحابة من مغادرة المدينة لحاجته إليهم في الشورى
وكذلك في صيانة المال العام؛ فنجد النصوص النبوية الواضحة {أدوا الخياط والمخيط؛ فإن الغلول عار وشنار يوم القيامة} ويخبر عمن اشتعل قبره عليه ناراً في شملة غلها لم تصبها المقاسم، وينكر على من قال {هذا لكم وهذا أهدي إلي} بقوله {هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟} وكذلك الراشدون من بعده كانوا خير مثال للورع التام في استعمال المال العام.
الدولة الإسلامية (الواقع)
المنبغي في حق المسلم ـ حاكماً كان أو محكوماً ـ أن يسعى لبلوغ الكمال في التزام أحكام الإسلام، والتخلق بآدابه ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله تعالى ((فاتقوا الله ما استطعتم)) وقوله صلى الله عليه وسلم {ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم} ولا بد أن نلاحظ في هذا المقام أن غربة الإسلام عن السياسة والحكم قد طالت؛ فإن الانحراف الحاصل في هذا الباب يعود لعهود طويلة ـ قبل أن تسقط دولة الخلافة بالكلية سنة 1924؛ تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم {لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة} والدولة التي تستحق أن توصف بأنها إسلامية هي التي تحقق الواجبات الشرعية ويصدق في حقها جملة من الصفات والتي خلاصتها تحكيم الإسلام في شئونها كلها؛ يقول الأستاذ محمد أسد رحمه الله: “إن الغايات التي تعطي لفكرة الدولة الإسلامية معناها ومبررات قيامها تنحصر في أن تجعل من شريعة الإسلام القانون المهيمن على شئون الحياة، كيما يسود الحق والخير والعدالة، وأن تنظم العلائق الاجتماعية والاقتصادية بصورة تتيح لجميع الأفراد أن يحظوا بالحرية والأمن والكرامة، وأن يجدوا في نشدانهم التطور بشخصياتهم أقل قدر ممكن من العراقيل وأكبر قدر ممكن من الحفاء والتشجيع، وأن تتيح للمسلمين ــ رجالاً ونساءً ــ أن يحققوا الأهداف الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام لا في مجال العقيدة فحسب، ولكن في مجال الحياة العملية أيضاً، وأن تكفل لرعاياها من غير المسلمين كل أمان فعلي، وأن تمنحهم الحرية التامة في عقائدهم وطقوسهم الدينية إلى جانب كفالة حقهم في التطور الاجتماعي والثقافي، وأن تحمي الوطن من العدوان الخارجي وتصونه من التصدع الداخلي، وأن تحتضن تعاليم الإسلام وتنشر رسالته في ربوع العالم على أوسع نطاق ممكن، فإذا حققت الدولة هذه الأهداف، كان لها الحق حينئذ بأن تتصف بأنها (خليفة الله في الأرض)”[3]
وسأعرض جملة من الواجبات التي يجب على الدولة تحقيقها على أرض الواقع:
1ـ حماية الدين مما يخل به أو يؤثر على حقيقته وذلك بالحرص على تعليم الناس دينَهم الصحيح والأخذ على يد السفهاء الذين يزيِّنون للناس الباطل، ويروِّجون بينهم ضروب الشرك والشعوذة؛ وذلك بمنع انتشار العقائد الباطلة، والعادات الفاسدة التي تناقض ما شرع الله لعباده وكذلك الخرافات والأباطيل وأنواع الدجل والشعوذة، مما هو شائع معروف في مجتمعنا المعاصر، كالقول بعدم حجية السنة والاستغناء عنها بالقرآن، وإدعاء علم الغيب، وبدعة التشيُّع والرفض والطعن على الصحابة في الجرائد السيارة واستكتاب القساوسة فيها لنشر باطلهم بين عوامِّ المسلمين، وانتشار الطرق المنحرفة المنتسبة زوراً وكذباً إلى الصوفية، وشيوع العادات الضارة في الأفراح والأتراح واعتبارها ديناً، وإنكار أهل الباطل على من ينكرها، فيجب على الدولة المسلمة الحيلولة دون ذلك كله، حتى لا يفسد على الناس دينهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأما الغش والتدليس في الديانات، فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين، ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين أو سب أئمة المسلمين ومشايخهم وولاة أمورهم المشهورين عند عموم الأمة بالخير، ومثل التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله، ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه، والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره، ومثل إظهار الخزعبلات السحرية والشعوذة الطبيعية وغيرها التي يضاهي بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا الباب واسع يطول وصفه، فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك وعقوبته عليها إذا لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل أو جلد أو غير ذلك.
2ـ الحرص على إظهار شعائر الدين وحمل الناس عليها؛ عملاً بقوله تعالى ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) فالدولة المسلمة مأمورة بأن تعظم شعيرة الصلاة ويدخل في ذلك القيام على المساجد وحماية أوقافها، وتحقيق الكفاية للأئمة والمؤذنين ومن يقومون على الشعائر من حفظة القرآن ومعلمي الناس الخير، ويجب عليها أن تجمع الزكاة من حلها وتضعها في مصارفها من غير تعدٍّ ولا تفريط، وتؤمن للناس حجاً ميسوراً دون أن تفرض عليهم ضرائب أو مكوساً، بل لو استطاعت أن تعين من يريد الحج فلتفعل وإلا فلتكف عنه إثقال كاهله وتعسير أمره
3ـ إقامة الحدود الشرعية وتطبيق الأحكام الحدية؛ صيانة للدين والأنفس والأعراض والعقول والأموال؛ على أن يكون ذلك علانية ـ قدر المستطاع ـ لقوله تعالى ((وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) وفي ظل الهجمة الشرسة على تعاليم الإسلام، مع مرحلة الاستضعاف التي يعيشها المسلمون فلا حرج في أن تقام الحدود في السجن بحضور طائفة مقدرة من أولئك المساجين، على أن يكون من بين الحاضرين من حصلت الجناية بحقه ليحصل الغرض الشرعي كاملاً في الردع والزجر وشفاء صدور المؤمنين. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله، وهو شر عظيم وفساد عظيم”.. إلى أن يقول: “إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله تبدو محاولة سخيفة، لا مبرر لها من الواقع، ولا سند لها من إرادة الله، ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم (مسلمين) يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا تخسر (السائحين) أي والله هكذا يقولون”.
وبمنطق الشهيد نفسه نقول: كيف وبعض من يسمون أنفسهم (مسلمين) يقولون: حتى لا نخسر النصارى، حتى لا نخسر الدول الكبرى، حتى لا نخسر منظمات حقوق الإنسان، حتى لا تتفتت البلاد، حتى نحافظ على وحدتها وننجو من الانفصال؛ ونحو ذلك من الدعاوى العارية من كل منطق الخالية من كل برهان
4ـ تحصين الثغور وحماية الحدود؛ وذلك بأن يكون الجهاد منهجاً وسبيلا، وأن تكون العقيدة العسكرية للجيش في الدولة المسلمة نابعة من هدي الإسلام، ويدخل في ذلك تربية الشباب على معاني الرجولة والقوة، وأن الإعداد ـ أو ما يسميه الناس بالخدمة الإلزامية ـ ليس نافلة أو تطوعاً بل هو فريضة عينية على كل قادر؛ خاصة ونحن في زمان عظم فيه التربص بالإسلام وأهله، والبلاد المسلمة تنتقص كل يوم من أطرافها، ويصحب هذا الإعداد العسكري تحصين للشباب والجنود بمعاني الإسلام العظام وغايات الجهاد الكبرى وتربيتهم على القيم التي يتمثلها المجاهد؛ عن أنس رضي الله عنه أن النبي r قال: ((انطلقوا باسم الله، بالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يجب المحسنين..))([4]).، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد: “أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله..”([5]).وفي مقابل ذلك لا بد من التناغم بين أجهزة الدولة؛ لئلا يكون جهاز يعد العدة ويستفرغ الوسع في حث الناس على الجهاد ومعالي الأمور، وجهاز آخر ينشر الخنا والمجون، ويشغل الناس بسفاسف الأمور، ويربي الشباب على التخنث والميوعة والانحلال، ويفت في عضد المجاهدين، ويؤخر ـ بما يصنع ـ نصر الله ورحمته
5ـ إقامة قضاء عادل هديه الإسلام ودستوره القرآن، ويختار لمنصب القضاء العدول الأكفاء الخيار الأمناء، ولا يترك منصب القضاء لكل من هب ودرج ممن لا يصدق عليه وصف العدالة، قال أهل العلم: ينبغي أن يكون القاضي عاقلاً، حراً، مسلماً، سميعاً، بصيراً، ناطقاً، عالماً بالأحكام الشرعية([6])، ومن أجل تحقيق النِّصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، قال أهل العلم: ينبغي للقاضي أن يكون فطناً، مهيباً، حليماً، مستشيراً لأهل العلم والرأي، سليماً من بطانة السوء، لا يبالي في الله لومة لائم، ورعاً، ذكياً، غير مستكبر، متأنياً غير عجول، نزيهاً عما في أيدي الناس، عاقلاً، مرضي الأحوال، غير مخدوع، وقوراً، مهيباً، عبوساً من غير غضب، متواضعاً من غير ضعف، حاكماً بشهادة العدول، متيقظاً، كثير التحرز من الحيل وما يتم مثله على المغفل والناقص والمتهاون.. قال مالك رحمه الله: “لا أرى خصال القضاء اليوم تجتمع في واحد، فإن اجتمع منها خصلتان ولي القضاء وهما: العلم والورع”([7]). قلت: هذا قول مالك في أهل زمانه فما ظنك بزماننا؟ فالواجب على وليِّ الأمر أن يتحرى أهل العدالة والعلم في هذا المنصب؛ من أجل أن يحقق غرض الشرع في تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصومات بين المتنازعين.
ويلحق بذلك ما كان ــ مثل القضاء ــ وسيلةً لتحقيق العدل وفض الخصومات وبسط الأمن، من تعيين الشُّرَط والمحتسبين ووكلاء النيابات ومن يسهرون على راحة الرعية.
6ـ العدل في تقدير العطاء وصرف الأموال على أصحاب الولايات العامة؛ فلا يتصور في الدولة المسلمة أن ترعى حقوق طائفة معينة من الناس فتصرف لهم أعلى الرواتب، وتهمل ـ في الوقت نفسه ـ وظائف أخرى أهلها ليسوا أقل شأناً من أولئك المحظوظين؛ فيعاني المعلمون والعسكر وأصحاب مهنة الطبابة ـ من ممرضين ومحضرين وأطباء ـ الأمرين وكذلك أرباب المعاشات ممن أفنوا أعمارهم في خدمة الناس، ولا يكاد العجب ينقضي من دولة إسلامية تضيع فيها حقوق الأئمة والمؤذنين حتى يصل الأمر إلى فقد الكادر الوظيفي الذي يضمن لهم عيشاً كريماً؛ فيعودون عالة يتكففون الناس، وينتظرون ما يجود به أهل الخير ولجان المساجد، وتجد من يرفع عقيرته قائلاً: إن المساجد ليست وظيفة للدولة بل هي وظيفة المجتمع!!!!! إنه لا يُعقل من الدولة المسلمة أن تنفق ببذخ تام على أمور تافهة، كدعم أهل الفن والرياضة وبالمقابل تظلم فئات أخرى هي أجل قدراً وأعظم نفعاً، كالجنود الذين يحمون البلاد والعباد، وطلاب العلم والأطباء والمدرسين والموظفين الذين يقضون حوائج الناس في سائر الدواوين. قال ابن تيمية: “أما المصارف فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة فمنهم المُقاتِلة، ومنهم ذوو الولايات عليهم: كالولاة والقضاء والعلماء والسعاة على المال، حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك”([8])، تعطي الدولة المسلمة كلاً حقه من غير تأخير ولا تسويف، ليأمن الناس من فتنة وشر، فما استجلب الراعي محبة رعيته بمثل الإحسان إليهم والقيام بحقوقهم وأداء الأمانات إلى أهلها، ولا حصلت الفتن ونجم الشر وساءت العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلا بمنعهم حقوقهم والتقتير عليهم والإساءة إليهم مما يستتبع غضب الرب ومقته وعقابه.
7ـ صيانة الأموال العامة وأن تكون الدولة في ذلك قدوة؛ فلا إسراف ولا تقتير بل هي في ذلك مثال العدل؛ ولا يتصور في الدولة المسلمة أن يرتع مسئولوها في النعيم المقيم من سيارات فارهة وأثاث ناعم وسكن فاخر ـ لا من كدهم ولا من سعيهم ـ بل على حساب الخزينة العامة، وأكثر الناس يتضورون جوعا، ويعانون مسغبة، بل يكتفي المسئول في تنقلاته وسكنه وأثاثه بما يحقق له الكفاية من غير توسع في مال الله، ولو استطاع أن يلقى الله خميص البطن من أموال المسلمين فليفعل. وقد نشرت الصحف قبل حين أن رئيس وزراء بريطانيا سافر في مهمة رسمية على درجة رجال الأعمال، ولما عرف المسئولون في الطائرة ذلك عرضوا عليه أن ينتقل مع ركاب الدرجة الأولى ـ كرماً منهم لأن الخطوط عربية ـ لكنه أبى ليكون قدوة لغيره!!! وقد كنا نحن أجدر بأن نقدم للناس مثالاً كهذا؛ خاصة في ظل تقارير تتحدث عن أرقام فلكية لأسفار المسئولين التي ترهق كاهل الميزانية العامة، وقلما يعود منها نفع على البلاد أو العباد.
8ـ أن يحرص المسئولون على تفقد أحوال الرعية كم من حاكم وكم من وزير ومسئول ضيَّع حقوق الرعية بالاحتجاب عنهم، والاعتماد على تقرير يرفعه هذا أو ذاك من مرؤوسيه، ثم بعد ذلك يبني على ذلك التقرير ــ المضلِّل غالباً ــ نتائج خاطئة يخرج بها على الناس يعدُهم ويمنِّيهم، ثم بعد حين يكتشف الناس كذب ذلك المسئول عليهم وغشه لهم مما يوغر صدورهم، ويكون ذلك المسئول حقيقاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))([9])، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة))([10])، قال ابن حجر رحمه الله: “حاصل الروايتين أنه أثبت الغش في إحداهما، ونفى النصيحة في الأخرى فكأنه لا واسطة بينهما، ويحصل ذلك بظلمه لهم، بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، وحبس حقوقهم، وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم ونحو ذلك”([11]). فالواجب على كل من ابتلاه الله بأمر الناس ــ حاكماً أو وزيراً أو والياً أو سفيراً ــ في الدولة المسلمة أن يباشر الأمور بنفسه، ويتصفح أحوال رعيته، ويتعهد حاجاتهم، ويسمع شكاياتهم، ويلبي مطالبهم ــ في حدود ما أمر به الشرع وما تقضي به المصلحة ــ ولا يجعل بينه وبين رعيته أسواراً منيعة، وأبواباً وحُجُباً، بل يبرز إليهم ويسمع منهم، كما كان في حال الأئمة الأخيار الذين عرفوا قدر ما أولاهم الله من نِعَم وأنه سائلهم عنها. هذا عمر بن الخطاب يقول: “إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا أذن له عليّ ليرفعها إليَّ حتى أقُصَّه منه”([12]). وهذا أبو موسى الأشعري لما تولى بعض الولايات في عهد عمر رضي الله عنه قال للناس: “إن أمير المؤمنين بعثني إليكم أعلمكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم”([13]).
أما لو احتجب الراعي عن رعيته فما نظر إليهم ولا اهتم بهم ــ زعماً منه بأنه مشغول بعبادة ربه ــ فإنه يكون قد خان الله ورسوله وخان الأمانة التي ائتمن عليها، وحسبه من عبادة ربه بعد أداء ما افترض الله عليه أن يجهد نفسه في إصلاح أحوال رعيته وبذل النصح لهم، فإن خير ما أنفقت فيه الأعمار قضاء حوائج المسلمين، وتفريج همومهم، وتنفيس كربهم، وخير ما شغلت به الأوقات إدخال السرور على المسلمين بسد جوعتهم، وستر عورتهم، وحفظ بيضتهم. كان عمر رضي الله عنه في سفر، فلما كان قريباً من الروحاء سمع صوت راع في جبل فعدل إليه، فلما دنا منه صاح: يا راعي الغنم، فأجابه الراعي، فقال عمر: إني قد مررت بمكان أخصب من مكانك وإن كل راع مسئول عن رعيته ([14]).
9ـ الحذر من فرض الجبايات والرسوم الباهظة التي تثقل كاهل الناس وتزرع في قلوبهم عداوة الحاكم وبغضه؛ فإنه ما استجلب غضب الرعية بمثل التعدي عليهم في أموالهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يدخل الجنة صاحب مكس} وقال في الزانية {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له}
10ـ إقامة علاقات خارجية متوازنة في ظل واقع يموج بالتربص بالإسلام وأهله، ولا حرج على الدولة المسلمة أن تأخذ بمبدأ المداراة والتي هي بذل الدنيا من أجل الدين، سواء كان ذلك عن طريق اتفاقات أو تسهيلات أو غير ذلك مما يكف غائلة المتربصين، ولتحرص دولة الإسلام على ألا تستعدي الناس عليها، وتسلك في ذلك مسلك الحكمة التي تستمطر بها نصر الله تعالى
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،،،،
[1] يعني دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه
[2] تفسير ابن كثير 3/68
[3] منهاج الإسلام في الحكم/ 28
([4]) رواه البخاري في كتاب الجهاد (88)
([5]) عبد البديع صقر، الوصايا الخالدة (43)، السيد سابق، فقه السنة (3/149).
([6]) د. الزحيلي (1/742)، درر الحكام في شرح مجلة الأحكام ـ علي حيدر 4/579، معين الحكام ـ علاء الدين بن خليل الطرابلسي/14
([7]) ابن فرحون، تبصرة الحكام (1/21).
([8]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (28/286).
([9]) رواه البخاري في كتاب الأحكام (8) ومسلم في الإمارة (227).
([10]) رواه البخاري في كتاب الأحكام (8) ومسلم في الإمارة (227).
([11]) ابن حجر، فتح الباري (13/128).
([12]) ابن سعد، الطبقات الكبرى (3/201).
([13]) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني . مجمع الزوائد (5/213).