قضايا معاصرة

دولة البحر والنهر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد

فالدعوة إلى إقامة ما أسموه (دولة البحر والنهر) قد ذاع صيتها وشاع أمرها، وأذكى نارها ناس تعددت دوافعهم واختلفت مشاربهم؛ والتأمل في أحوال هؤلاء يؤدي بالناظر إلى مقالاتهم إلى تصنيفهم:

  • فمنهم من يدعوه إلى ذلك شفقةٌ على أهله وعطفٌ على رحمه، يحمله على ذلك ما يرى من تنمُّر البعض وشدة حملته على أهل الشمال والوسط، وتحميلهم أوزار ما كان من مآس وأهوال، وتخلف عانت منه البلاد كلها بغير استثناء
  • ومنهم من يواجه السيئة بمثلها، هديُه في ذلك شعار الجاهلية: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
  • ومنهم شعوبيون عنصريون توجههم نظرة استعلائية حين يحسبون أنفسهم من طينة غير طينة البشر، وهم غافلون عن قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}
  • ومنهم من تحركه جهات أجنبية لا تريد بالبلاد وأهلها خيراً، بل هم أحجار على رقعة الشطرنج، ومنفِّذون لخطط لا يعلمون – في الغالب – مآلاتها

والذي أود بيانه في هذه الكلمات أن هذه الدعوة آثمة بغير شك، وذلك لما يترتب عليها من تفريق الكلمة وتشتيت الصف، وإذكاء نار العنصرية والقبلية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس منا من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية) وقال (الناس كلهم لآدم وآدم من تراب) وقال (ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله) وها هنا لا بد من التذكير بأمور:

أولها: أن الأدلة القطعية جاءت آمرة بالوحدة والاتفاق والتعاون على البر والتقوى بين سائر المسلمين، فقال تعالى {إنما المؤمنون إخوة} وقال سبحانه مادحاً أولياءه {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وقال عنهم {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وقال نبينا عليه الصلاة والسلام (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) وقال (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وهذه الدعوات التي تريد تجزئة البلاد وتشطيرها إنما تتعارض مع تلك التعاليم وهاتيك المفاهيم

ثانيها: أن الدوائر الصليبية والصهيونية قد عمدت إلى تجزئة بلاد المسلمين بعد أن كانت كتلة واحدة، فجعلتها مِزَقاً وأشتاتا، وأغرت بين حكامها العداوة والبغضاء حتى نشبت بينهم حروب وثارات، ثم عمد أذياله وصنائعه إلى تجزئة هذا المجزَّأ فكثرت الأجسام والفرق التي يبغض بعضها بعضاً ويعادي بعضها بعضا، وهم حريصون على مزيد تجزئة وتقسيم؛ لما علموا من طبائع الأشياء وسنن العمران أن التفرُّق عنوان الفشل، والتجزئة بداية الوهن؛ وقد خاطبنا ربنا سبحانه بقوله {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} وقال {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقال معلِّلاً ما حدث يوم أحد مبيِّناً أسبابه {حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} فكل من يدعو بهذه الدعوة ويروج لتلك الفرقة فهو معين لأولئك الأعداء شاء أم أبى، علم أم جهل

ثالثها: النظر إلى المآلات يؤدي بنا إلى القول بحرمة مثل هذه الدعوات، وذلك من وجوه:

  • هذا التقسيم مؤذن بضعف الإسلام وأهله لا قوتهم، وتفريقهم لا جمعهم
  • هذا التقسيم سيؤدي بأهله إلى الاستعانة بأعدائهم على إخوانهم، ومن قرأ تاريخ سقوط الخلافة وما صنعه القائمون على ما سُمِّي حينها (الثورة العربية) علم أن ذلك كائن لا محالة
  • هذا التقسيم من نتائجه أن يتولى أمر ذلك المقسم صنائع لأولئك المستعمرين يأتمرون بأمرهم وينقادون لرأيهم، ويكون كل همهم الحفاظ على ما نالوا من لعاعة الدنيا في منصب أو جاه أو مال
  • هذا التقسيم غايته أن يكون انتقاماً للنفس ودفاعاً عن حظوظها، وليس غضباً لله تعالى ولا لانتهاك حرماته
  • دعاة التقسيم هؤلاء سرعان ما سيختلفون ويتصارعون، مما يؤدي بهم إلى مزيد وهن وفاقة؛ حيث لم يجمعهم هدف ولم توحدهم وجهة، وما خبر الجنوب عنا ببعيد

رابعها: أن الواجب على المسلمين في السودان أن يتنادوا إلى كلمة سواء، وأن يعملوا على وحدة تجمع شتاتهم وتوحد صفوفهم؛ لأن ذلك أمر الدين ومقتضى المصلحة، ونحن في عالم يتعاون عقلاء أهله – على ما بينهم من تباين واختلاف – من أجل بلوغ ما يريدون من مصالح عاجلة وآجلة، ولذلك رأينا قيام الاتحادات بين الدول والأمم سعياً لتحصيل تلك المصالح، خاصة وأننا نعلم – يقيناً – أن معظم تلك الحركات المسلحة التي تفوَّه بعض منسوبيها بتلك الكلمات العنصرية إنما هي حركات موجَّهة من الخارج منفِّذة لأجندة المخابرات العالمية، ليست مبرَّأة من الهوى والغرض، وتاريخها يشهد بأن الغرب هو من استنبتها ورعاها واستضاف كثيراً من قادتها، فالواجب على أهل الإسلام – في الشمال والغرب والشرق والوسط والجنوب – أن يواجهوا ذلك بدعوة مضادة إلى الوحدة والائتلاف وحل المشكلات وفق هدي الإسلام؛ من أجل أن يفوتوا على أولئك الفتانين ما يريدون

خامسها: استقراء الواقع يدل على أن مسلمي هذه البلاد ما يزالون – والحمد لله – على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم ومذاهبهم يعيشون في سلم مجتمعي فريد، متسامحون متغافرون متعاونون، يغيثون ملهوفهم ويعينون ضعيفهم ويكرمون ضيفهم ويساعدون محتاجهم؛ و يعملون على حل ما يطرأ من مشكلات بما توارثوه من كريم عاداتهم وجميل طباعهم،حتى نبتت تلك النابتة التي تعين الشيطان في إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين يستوي في ذلك أهل الشرق والغرب والشمال والوسط، والواجب علينا تذكير الناس بتلك الأواصر من أجل استبقائها وتنميتها، لا أن نسعى في الانجرار وراء بعض الأشرار ممن لا يرجون لله وقارا.

هذا وإني ناصح لإخواني هؤلاء ممن يروجون لتلك الدعوة، أقول لهم: لا يحملنكم ما سمعتم من نعرات عنصرية تصدر عن بعض الناس – خاصة في دارفور – على أن مواجهتها بمثلها؛ فإن الله تعالى لا يمحو الخبيث بالخبيث، ولكن يمحو الخبيث بالطيب، والخطأ لا يعالج بالخطأ، والدم لا يطهره البول، ورحم الله امرأ لم يجعل من نفسه عوناً للشيطان في بلوغ مآربه؛ وإن علينا تذكير الناس بأن ما يحدث من خلافات أحياناً قد تحدث بين أهل البيت الواحد والعائلة الواحدة والقبيلة الواحدة، ولو كان الناس كلما نشب خلاف دعا داعيهم إلى الانفصال لما بقيت لهم باقية، ولا حول ولا قوة إلا بالله

أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل، وأن يجمع شملنا ويلم شعثنا، ويصلح سرائرنا؛ إنه خير المسئولين وخير المعطين، والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى